عبد النّاصر النازح من اليرموك: ممنوع أن أعيش
الإثنين،
18 كانون الثاني، 2016
ـ «أمتين رح أموت يابا؟
ـ «ليش يابا بعيد الشر عن قلبك.
ـ «يابا أنا محجبة وبصلي ومؤمنة، وإنت بتقول المؤمن رح يروح عالجنة. بالجنة
في أكل وشرب ولبس، بركي فوق أكلنا. هون ما عم ناكل يابا»..
فلسطين، ابنة العشر سنوات، لاجئة فلسطينية سورية، طرقت وأهـــلَها باب
الإنسانية فباغتتها الأنا المتربّصة بدار الأموات الأحياء. يقول والد فلسطين محاولاً
خرق جدار الصمت الرسمي اللبناني حيال أحوال المخيمات الفلسطينية في لبنان: «ميت لا
يحمل ميتاً، ونحن قصدنا أناساً أمواتاً». هو الحاج عبد الناصر، فلسطيني سوري (53 عاماً).
غادر مخيّم «اليرموك» بعد سقوطه منذ أربع سنوات، ناقلاً معه ذكريات كثيرة حول «حياة
العزّ والاكتفاء هناك».
متحسّراً، يعود عبد النّاصر في ذكرياته إلى موطنه «الثاني». «في اليرموك
كنت أملك محلاً للبقالة، تمّت سرقته خلال الأحداث، إضافةً إلى منزلين تهدّما جــــراء
القصف». وعلى الرّغم من ذلك، لا يندم عبد النّاصر على شيء ســــوى مفتــاح بيت أهله
وجدّه في طبريا في فلسطين المحتلة.
يُتابع سرد «الأمجاد». «شاركتُ في قتال التّكفيريّين للدّفاع عن المخيّم،
حتّى أنّ ابني تعرّض للخطف على يد الجماعات المسلحة لمدة 10 أيام».
لا يتوانى الرّجل الخمسينيّ عن إشهار الفخر بموطِنَيه، سوريا وفلسطين.
يقول «نحن فلسطينيّي
بحرقة الأب، يروي عبد الناصر، الّذي قذفت به أمواج الحرب السورية إلى
مخيم «برج البراجنة» في الضاحية الجنوبية لبيروت، كيف كان يمرّ ذات يوم مع ابنته من
جانب محل للحلوى، حين رأى نظرات ابنته تتبع مصدر الرائحة المنبعثة من ذاك الدكان.
«طلبت منّي أن أشتري لها قطعة حلوى، فقلت لها سأقوم بذلك أثناء طريق العودة وأنسيتها
الأمر. ولكن حينما جلستُ بمفردي بكيت بحرقة». يسكت قليلاً ثم يقول متنهّداً: «ما معي!
ما بعرف حدا إتديّن منّو».
يُلفت إلى ابنيه الجالسين بجانبه «معليش بابا سامحوني». يبتسم ويقول
«نحنا صرنا عايشين عالشحادة»، مؤكّداً أنه لم يعتد يوماً على العيش من «كرتونة الإعاشة».
يسرد عبد النّاصر أموراً مؤلمة «مرّت علينا أيام نشتهي اللقمة ولا نحصل
عليها. أحياناً يمر اليوم من دون أن نأكل كسرة خبز».
لـ «الاونروا» نصيبٌ من حديثه. يتحدّث عن تقليص المساعدات الّتي أصبحت
«خجولة جدّاً». «كانت تدفع لنا 100 دولار كإيجارٍ للمنزل، لكنّها لم تعُد تقوم بذلك».
تحــــصل عائلة عبد النّاصر اليوم على 40 ألف ليرة فقط للفرد الواحــــد. يشرح الحاج
كيف على «كلّ فردٍ من العـــــائلة أن يصـــرف أقلّ من دولارٍ واحدٍ يوميّاً على كلّ
شيء».
دفعت الظروف المعيشية الصعبة بالأب إلى الالتحاق بموجة المهاجرين غير
الشرعيين. إلا أن البحر لم يحمل لهم الحظ الأوفر، حيث تمّ القبض على عبد الناصر ليسجن
تسعة أيام، حصل بعدها على قرار التسفير والمنع.
تستغرب العائلة التّعامل مع النازح الفلسطيني السوري في لبنان. يقول
«الدولة اللبنانية تعاملنا كسائحين، ونحن معرّضون للملاحقة في حال المكوث في لبنان
أكثر من سبعة أيام، فالبقاء أكثر من هذه المدة يُعتبر مخالفةً قانونية».
يتمنّى عبد الناصر الحصول على الإقامة القانونية في لبنان. يقول: «في
الشهر الثالث، أصدر الأمن العام بياناً طلب فيه من النازحين الفلسطينيين السوريين أن
يتقدموا إليه لتسوية أوضاعهم. فكانت النتيجة أنه على كل نازح أن يدفع مبلغ مئتي دولار
كلّ ثلاثة أشهر لتجديد الإقامة. وهناك مَن يحصل على تسفير على الرغم من الدفع وطلب
تجديد الإقامة». يُعلّق عبد النّاصر «لو كنت أملك 300 ألف ليرة أسدّدها كل ثلاثة أشهر
عن كل شخص، لقمت بتعبئة قارورة الغاز وأحضرت ما تيسّر من الطعام». يُدير نظره إلى ابنه
سعد الذي يجلس إلى جانبه: «لو كنتُ أمتلك مبلغاً كهذا، لكنت عالجت ابني، فصحّة ابني
بحدّ ذاتها معاناة».
«أنا لا أشحذ!»
عمليّة سعد، الذي يعاني من انسداد في صمّام القلب، تكلفتها حوالي 34 ألف
دولار. يحتاج الشاب إلى تغيير صمّامين. لكنّه لا يملك ولو حتّى جزءاً يسيراً من ثمن
العمليّة.
مجدّداً، يتوجّه الوالد لإلقاء اللوم على «الأونروا». «حين لجأتُ إلى
المنظّمة وعدوا بمساعدتي لتأمين إيجار سرير في المستشفى لمدة ثلاثة أيام فقط وباقي
التكاليف الخاصة بالعملية والصمّامات والمراجعات أدفعها من حسابي». يتابع «لا أملك
دولاراً واحداً أعطيه لأحد أولادي إذا طلبوا مني المال، فكيف أؤمّن تكاليف تلك العملية؟».
يصوّب نظره نحو ابنه الثاني «حينما عجزنا عن الحصول على مساعدة أي مؤسسة في لبنان،
تفاجأت بابني محمّد يجول
على المستشفيات بهدف بيع كليته لإنقاذ صحة أخيه».
سعد..
سعد لم يكن سعيداً. خلال اللّقاء، كانت نظراته تُبدي الكثير من الاعتداد
بالنفس وتخفي الكثير من الخجل. ودّعتُه والعائلة، ورجعتُ أدراجي مارّةً بدهاليز المخيم
الذي تفوح منه رائحة الحرمان والقهر. هنا، أوصاني الوالد بأن لا أنشر صورة ابنه «فنحن
لا نشحذ»..
المصدر: مريم مالك – السفير