هذه حكايتي (41) || أحمد علي حافظ: قررت
الخروج من مخيم اليرموك بعد أن هد الجوع أطفالي الثلاثة وكاد المرض يفتك بهم
الإثنين، 23 نيسان، 2018
"لم يكن يخطر ببالي في يوم من الأيام أن أغادر منزلي ومخيمي إطلاقاً"
بالرغم من هول ما رأيته من مشاهد يدمى القلب لها" بهذه العبارة بدأ أحمد علي حافظ
سرد حكايته لمجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية التي تشبه قصص الآلاف من اللاجئين
الفلسطينيين السوريين الذين اضطروا مكرهين غير مخيرين لترك منازلهم وممتلكاتهم والفرار
من حرب لا طاقة لهم بها.
يقول أحمد: "عندما ضرب الطيران (الميغ)
السوري مخيم اليرموك يوم 16 كانون الثاني/ 2012 ودخل الجيش الحر إلى حارات وأزقة المخيم،
كنت في الشارع وشاهدت بأم عيني الأشلاء تتطاير، بعدها رأيت حشد كبير من أهالي المخيم
يغادرونه، إلا أنه لم يخطر ببالي أن أغادر مع المغادرين وقررت أن أبقى في منزلي ومخيمي،
لأنني أعلم علم اليقين أن ثمن تركه والنزوح عنه سيكلفني غالياً وسوف أذوق عذاب التشرد
والمرارة التي اكتوى بنارها أجدادي عندما غادروا فلسطين.
يتابع أحمد في الأيام الأولى كان الطعام
والدواء متوفراً في المخيم، إلى أن بدأ الجيش السوري بفرض حصاره الجزئي ومن ثم الكلي
على المخيم في منتصف عام 2013 حينها بدأت صفحة جديدة مليئة بالمعاناة الطويلة نتيجة
الجوع ونقص مقومات الحياة، وبالرغم من ذلك صدمت أنا وزوجتي وأولادي الثلاثة مثلنا مثل
من تبقى في المخيم.
يضيف مع اشتداد الحصار بدأ الطعام ينفد، وأصبحت سبل
الحياة معدومة في المخيم، فقد فُقد كل شيء، فأصبحنا نأكل العدس، وبعدها بتنا نأكل الخبيرة وعشبة "أجر العصفورة"
السامة، وورق الصبار، وعندما نفد طعامنا واشتد جوعنا وأصبحت عائلتي تنام وتصحو على
ايقاع صوت معدتهم الخاوية، اضطررت للخروج من منزلي للبحث عن الطعام في البيوت الخاوية
التي تركها أصحابها علّي أجد لو كسرة خبز أو ما أسكت به جوع أطفالي، لقد رأيت الناس
يبحثون في القمامة عن بقايا طعام وخضراوات، كما شاهدت البعض الآخر يتساقط ويموت في
الشارع من شدة الجوع، ويشير أحمد إلى أن هذه الحالة المأساوية دفعت خطيب جامع فلسطين
في مخيم اليرموك الشيخ رمضان خطيب يوم 11/ 10/ 2013 إلى اصدار فتوى بجواز أكل لحم القطط
والكلاب والحمير؛ لفقدان الطعام بشكل كامل داخل المخيم.
يروي أحمد قصة اللاجئة الفلسطينية التي
لم تتحمل بسبب الضغط النفسي الواقع عليها صرخات طفلها الجائع، فانهالت عليه ضرباً حتى
فارق الحياة، وكذلك قصة الشاب مازن (18 عاماً) الذي أقدم على الانتحار بعد عجزه عن
إعالة أمه وأخواته وهو معيلهم الوحيد منذ وفاة والده.
ويرى أحمد أن المأساة التي عاشها أهالي
مخيم اليرموك جراء الحصار المفروض عليهم وما حل بهم ستسجل كوصمة عار في تاريخ البشرية،
التي اعتقدت أن هذه التجربة التي مر بها الباريسيون
عام 1590 الذين أكلوا لحم الخيل والكلاب والقطط لشدة الحصار والجوع من المستحيل أن
تتكرر، إلا أنها تكررت على مرأى من أعينهم وأسماعهم.
قرار الخروج من المخيم
يتابع أحمد رغم اشتداد القصف وانعدام كل
فرص الحياة في مخيم اليرموك، والجوع الشديد الذي فتك بنا كنت لا أزال متمسكاً بالبقاء
بمخيم اليرموك، إلى أن أصيب أولادي بالتهاب الكبد نتيجة شرب مياه الآبار الملوثة بسبب
قطع الحكومة السورية الماء بشكل كامل عن حارات وأزقة المخيم منذ 9 أيلول/ سبتمبر
2014، يضيف أحمد آخذت أولادي الثلاثة إلى مشفى فلسطين لتلقي العلاج، فأخبرني الطبيب
أن الدواء مفقود، ولكنه نصحني أن أطعم أولادي
مربى المشمش، هنا لم أتمالك نفسي وخرجت ضحكة عالية مني، وقلت له يا دكتور على ما يبدو
أنك عايش في عالم ثاني، دلني أين أجده لأذهب زحفاً كي أحضره لأطفالي، ويوضح أحمد إلى أن وضع أولاده الصحي بدأ بالتدهور
إلى أن تمت المصالحة بين قوات المعارضة السورية في بلدة يلدا وببيلا وبيت سحم وبين
قوات النظام السوري، وهنا بدأت بوادر الانفراج من خلال توزيع الأونروا طرود غذائية
على أهالي مخيم اليرموك، ذهبت إلى يلدا وحصلت على سلة غذائية فكانت فرحتي وفرحة أولادي
لا توصف، وبعد مرور شهر فُتح حاجز ببيلا توجهت
أنا وزوجتي وأولادي إلى حاجز ببيلا وكان معي مبلغاً من المال أرسله لي شقيقي،
وقفنا على الحاجز بالدور لمدة ست ساعات، وعندما وصلنا إلى العنصر المسؤول عن التفتيش
أخذ مني ومن زوجتي الهوية والأوراق الثبوتية، وقال لي كم تدفع ثمن خروجك، فأجبته أنني
لا أملك سوى 25 ألف ليرة سورية، رمقني بنظرة استخفاف وقال لي تعال معي أنت وأسرتك،
وبعد أن أعطيته المال أخرجنا من الحاجز، حينها توجهت إلى بيت أحد أقاربي في دمشق ومكثت
عنده خمسة أيام، ومن ثم قررت السفر إلى لبنان.
الفرار من الجوع إلى الشقاء
وصل أحمد إلى لبنان بتاريخ 27 شباط/ فبراير
2014 هرباً من ملحمة الموت المخيفة والمرعبة التي عاشها في مخيم اليرموك، إلا أنه لم
يكن يدري أنه فر من مرارة الجوع والقصف إلى حنظل الحياة المزرية في لبنان، شد رحاله
إلى مخيم عين الحلوة بمدينة صيدا لما يتمتع به من إغاثة الملهوف وطيبة أهله ورخص أسعار
أجار المنازل والمواد الغذائية فيه، استقبله سكان المخيم ومدوا له يد العون والمساعدة
وقاموا بتأمين بعض الاحتياجات له، بعد ذلك كان لابد أن يعتمد أحمد على نفسه في تحمل
أعباء العيش وتأمين اجار السكن وطعام عائلته، هنا بدأت حجم المأساة تتكشف لأحمد خاصة
أنه يعاني من مرض الربو وضعف في البصر جراء سقوط صاروخ أرض أرض على منزله، ونتيجة لذلك
فأنه لا يستطيع العمل وتأمين قوت أولاده اليومي.
يشيد أحمد بالدور الذي لعبته الجمعيات الإغاثية
بمخيم عين الحلوة في مساعدته ومساعدة آلاف اللاجئين الفلسطينيين السوريين والسوريين،
إلا أنه يكشف أن المساعدات بدأت تقل شيئاً فشيئاً حتى انعدمت في الآونة الأخيرة، ويضيف
أحمد لقد تفاقمت معاناتي في ظل انقطاع المساعدات وقلة المعونات الانسانية، فقد كانت
تلك المعونات تؤمن لي بعض احتياجاتي من الدواء والغذاء.
يستطرد أحمد الذي يختزن في رأسه هموم كثيرة
أكبر من أي كلام يمكن أن يقال في صددها، أعيش واقع أليم مأساوي وأقاسي الأمرّين في
لبنان نتيجة عدم قدرتي على العلاج، أو العمل لتأمين الطعام لعائلتي، هذا ناهيك عن حالة
عدم الاستقرار التي نعيشها نتيجة هشاشة أوضاعنا القانونية والمعيشية والطبية والتعليمية،
فالحكومة اللبنانية لا تعامل الفلسطيني معاملة اللاجئ بل الشائح وترفض تجديد إقامته
مما يعرضه للاعتقال والترحيل.
ويعبر أحمد عن عدم رضاه إلى ما آلت إليه أوضاعه المعيشية
ويتمنى أن يهاجر إلى أي دولة تحترم إنسانيته وتعامله بكرامة، ويتساءل في نهاية حديثه
من أوصل اللاجئ الفلسطيني السوري إلى هذه الحالة من اليأس ودفعه دفعاً إلى اختيار بلاد
الغرب كملاذ أمن له بدل بلاد العُرب، ويستشهد ببيتين شعر قالهم الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود :
ســأحمل روحــي عـلى راحـتي وألقــي بهـا
فـي مهـاوي الـردى
فإمــا حيــاة تســر الصــديق وإمــا ممــات
يغيــظ العــدى
ويتابع أحمد هذان البيتان الشعريان يصفان
حالة اللاجئ الفلسطيني السوري المهجر إلى لبنان، هو ليس فقط حامل روحه على كفيه وإنما
بات يحمل كفنه بين يديه، وبات يفضل الردى على العيشة الرديئة والسيئة التي يحياها بلا
حرية وكرامة في بلاد العرب، لم تعد تعني له الحياة شيئاً وهو يستجدي رغيف الخبز ويناشد
من أجل أخذ حقوقه أسوة بأشقائه.
المصدر: مجموعة العمل – فايز أبو عيد