المـرأة الفلسطينيـة رحلـة معـانـاة وملحمـة
صمـود
الخميس، 04 نيسان، 2013
منذ فجر التاريخ لم تتوانَ المرأة يوماً عن تأدية
دورها بشكل فعال سواء أكان ضمن نطاق أسرتها ام مجتمعها ام عملها. ولا شكَّ أن
المرأة الفلسطينية متمايزة عن غيرها من النساء لخصوصية وضعها كلاجئة تحمل وطناً
يعيش فيها. وهكذا كانت الفلسطينية هي أم الشهيد والأسير والمناضل وزوجته وأخته
وابنته، لذا فلم يكن مستغرباً أن تصبح هي نفسها مناضلةً وأسيرةً، لترسم وتسجِّل
بدمائها وصبرها ونضالها ما يشهد له تاريخ القضية الفلسطينية مبقيةً شعلة النضال
السرمدية موقدةً أبداً.
هي القصة ذاتها وحب الوطن
نفسه يتشاطرنهُ جميعاً كلٌّ من منظارها. نساء اخترن عدم القبول بتقييد دورهن
النضالي بالعمل الاجتماعي أو الثقافي أو أي تصنيف يشعرن أنه قد يحول دون تأدية
دورهن الكامل بحسب رؤيتهن، فكنَّ نموذجاً يُحتذى به في الأخلاق والوطنية والكفاح.
صبحية حميدي:
هي إحدى
نماذج النساء اللواتي دفعن جزءاً من حريتهن ثمناً للنضال. وقد انتسبت حميدي إلى
حركة "فتح" في العام 1970حين دخلت معسكر الزهرات والفتوة، حتى دخولها
كمربية أطفال في اتحاد المرأة، إلى جانب ممارستها العمل التنظيمي.
وخلال
الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، تمَّ اعتقالها من قِبَل إسرائيل حيثُ اقتيدت من
منزلها ليلاً إلى مدرسة الشجرة التي كانت تقع في منطقة المعشوق في صور، وجرى
التحقيق معها لمدة أسبوع، ثمَّ أُرسلت إلى معتقل النساء الذي كان يُعرف
بـ"روجيه الدخان" في منطقة النبطية، وأمضت فيه تسعة أشهر حتى خروجها ضمن
صفقة تبادل الأسرى. وحول حيثيات اعتقالها والأحداث المرتبطة به تروي صبحية قائلة:
"تمَّ اعتقالي لأنني كنت أهرِّب الأسلحة والذخائر وأقوم مع بعض الشبان
بالواجبات الوطنية وتوزيع المناشير"، وتضيف: "وفي أحد الأيام وفي قرابة
الساعة الواحدة ليلاً داهمت القوى الإسرائيلية منزلنا وكنت بمفردي مع أمي، فقيدوني
ثمَّ توجهوا بي إلى البراد وأخرجوا ما كان بحوزتي من أغراض كنت أخبئها وكأنهم
عرفوا أين يبحثون بالضبط، ثمَّ أخذوني إلى نقطة التحقيق، وغطوا رأسي بكيس وأوثقوا
قيد يدي ثمَّ مدَّدوني في ردهة كانوا يمددون فيها جميع من اعتقلوهم نساءً ورجالاً.
وبعد مضي بعض الوقت، أحضروني للتحقيق وباشروا بسؤالي حول مصدر السلاح ومن يساعدني،
لكنني رفضت البوح بأية كلمة وكنت أُنكر كل شيء. وعندها بدؤوا بمحاولة الضغط علي
عبر إيذائي نفسياً بالكلام المسيء فكنت أبكي لكلامهم. وعندما لم أتجاوب معهم كانوا
يأخذون الكيس ثم يغطسونه بالمازوت ويعيدونه لرأسي ثم يحكمون وثقه حول رقبتي،
ليعودوا لتمديدي في الردهة نفسها. وكانوا يبقونني ممدة حتى مجيء الساعة الواحدة أو
الثانية فجراً فيوقظونني عنوةً، ويأخذونني للتحقيق مرة أخرى".
وتتابع:
"وبعد عدة أيام مرضت قليلاً، فاستدعوا لي طبيباً واهتموا بي، وعندما تماثلت
للشفاء أخذوني إلى معتقل النساء".
وحول
تجربتها في المعتقل تقول صبحية: "على عكس ما قد يظن البعض فقد زادتني تجربتي
في المعتقل عزيمةً وقوةً واندفاعاً، وشعرت أنني أريد أن أناضل أكثر وأكثر. فحتى
عندما كنت في داخل المعتقل، بدأت بتشكيل مجموعة من الأخوات اللواتي كن في
"فتح" وكنا نجتمع معاً ومع مجموعات أخرى من الفتيات من تنظيمات أخرى،
لذا فقد حرصت آمرات السجن على التفريق بيننا كي لا نخطط لأي شيء".
غير أن
أكثر ذكرى راسخة في ذهن صبحية هي يوم جاءت إحدى آمرات السجن لتخبرهن وهي مسرورة
بأنه سيتم الإفراج عنهن ضمن صفقة التبادل، وحول هذه الواقعة تكمل صبحية: "وفي
يوم إطلاق سراحنا جاء الأخ القيادي في حركة "فتح" صلاح التعمري، الذي
كان يحرص على تأمين احتياجاتنا في المعتقل. وعندما خرجنا، صعدنا في حافلات كبيرة
أخذتنا لنقطة التجمع عند المطار، وكم كان اللقاء يومها مؤثِّراً حين رأينا زملاءنا
الشبان من المعتقل وأهلنا الذين تدفقوا ليأخذونا بأحضانهم".
غير أن
ما حدث مع صبحية لم يثنيها عن ممارسة عملها النضالي، حيثُ أنها لم تلبث أن عادت
لعملها فور خروجها. أمَّا اليوم فهي أم لأسرة من عدة أفراد، ولكنها لا تزال تمارس
عملها في حركة "فتح" ضمن مكتب المرأة الحركي. أمَّا عن الرسالة التي
توجهها فهي تقول: "لم استسلم لأن أبا عمار علَّمني أن النضال لا يتوقف إلا
عند استعادة الأرض، وسأبقى على وصية الختيار طالما أنا حية، وأدعو جميع
الفلسطينيين والفلسطينيات للتمسُّك بالثوابت. كما أدعو المعنيين لإنصافي رتبةً
وراتباً ولقراءة تاريخي النضالي وتقدير ما قدمته".
حليمة ذيب:
بدورها
انتسبت حليمة ذيب إلى حركة "فتح" ضمن الزهرات، ثمَّ انخرطت في اتحاد
المرأة كمربية أطفال في روضة الاتحاد، وكانت تخضع لتدريبات منها التنظيمية
والعسكرية، والمتعلِّقة بالإسعافات والتمريض، إلى جانب مشاركتها في المهرجانات.
وخلال الاجتياح، نشطت حليمة في خلايا سرية اشتملت مهمتها على توزيع المناشير
وكتابة الشعارات على الجدران إلى جانب نقل بعض المواد على اختلاف أنواعها. غير أن
حليمة تُرجع سبب اعتقالها إلى قيام أحد الشبان ممن تم اعتقالهم بالوشاية عن اسمها
تحت وطأة التعذيب والضرب، مما استدعى إسرائيل لأسر زوجها الذي كان خطيبها آنذاك،
وتضيف: "وبعد ثلاثة عشر يوماً اعتقلوني أنا وإحدى رفيقاتي، ثم أخذونا لمدرسة
الشجرة، فمكثنا فيها أسبوعاً تخلله تحقيقات مضنية. ورغم أننا لم نعترف بشيء، إلا
أنهم أجبرونا تحت الضغط والتهديد على كتابة اعترافات بما طلبوه إلينا ثمَّ أخذونا
للمعتقل، حيثُ أمضينا قرابة أربعة شهور إلى أن خرجنا بصفقة التبادل". وحول ما
تركته هذه التجربة في نفسها تقول: "لم تؤثِّر فيَّ هذه التجربة سلبياً، فقد
بقيت أتابع عملي في "فتح" ولم أتخلَ عن مبادئي ومسيرة النضال رغم عذابي
وإهانتي لأن قناعاتي ومبادئي وثوابتي لا تتزعزع. وقد عملت فترة دون أن أتقاضى
مخصصات لذا فلو كنت ممن يستسلمون عند أول عقبة لاستسلمت. وحالياً فأنا مسؤولة
العمل الاجتماعي والتكافل الاجتماعي في صور، وأنا أُأمن بأهمية العمل الاجتماعي
لأن القاعدة الجماهيرية لأي حركة تستند بشكل كبير إلى العمل الاجتماعي".
وختمت حليمة بالتمني على كل فلسطينية بأن تكون مخلصة لشعبها وثورتها، داعيةً جميع
القوى والتنظيمات للتوحد معاً، وآملة من كل مسؤول أن يؤدي رسالته بأمانة، ومؤكدةً
أن القدوة كانت وستبقى القائد الشهيد أبو عمار الذي أفنى نفسه في سبيل أرضه وشعبه.
هدى الأحمد:
أمَّا
هدى الأحمد فقد تمَّت مداهمة بيتها فغطوا رأسها بكيس وقيدوها ثمَّ اقتادوها لمدرسة
الشجرة بتهمة تنظيم مجموعات تابعة للجبهة الشعبية والقيام بأعمال تنظيمية وعسكرية.
وعن ما تعرَّضت له خلال اعتقالها تقول: "علمت أن شاباً ما قد أعطى اسمي لهم،
رغم أنني لم أكن أعرفه. وخلال التحقيق معي حاولوا إخافتي عن طريق إتباع أساليب
الضغط والترهيب النفسي فكانوا يستخدمون الكلام المسيء والبذيء معنا لأنهم كانوا
يعلمون القيمة التي نوليها نحن الفلسطينيين للشرف لكوننا مجتمعاً محافظاً، وكانوا
أيضاً على إطلاع على مجمل عاداتنا وتقاليدنا، وبالتالي فقد عملوا على استغلال نقطة
ضعف أي إنسان بعد أن يكونوا قد اطلعوا على كافة المعلومات عنه. كذلك جعلوني أقف
لمدة 36 ساعة وسمح لي فقط بدخول الحمام وتناول الطعام لأعود وأقف مجدداً، وبقيت
على هذه الحال حتى الصباح. ولكنني لا أنكر أنَّ أساليبهم لم تجد معي لأنني كنت قد
أخذت دورةً وقرأت كتاباً حول هذه الأمور". وحول مجريات التحقيق معها تقول:
"بعد ثمانية أيام أخذونا للتحقيق، وأعادونا، ثم استدعونا بعد ثلاثة أشهر
وحققوا معي لمدة أربعة أيام". وتشير هدى إلى أن أبرز الصعوبات التي واجهتها
كانت داخل المدرسة، ومع المعتقلين فيها بالذات بسبب وجود بعض الفتيات ممن يعانين
حالات نفسية وعقلية غير مستقرة حيثُ كنَّ يتسببن بالأذى لمعتقلات أخريات، إضافةً
لإتباع الإسرائيليين أسلوب التعذيب النفسي من خلال جعلهم يشاهدون الأخبار حين يكون
هناك أنباء سيئة رغم أن مشاهدة التلفاز كانت ممنوعةً عنهم. وهكذا أمضت سبعة أشهر
حتى خروجها في التبادل أواخر عام 1983. وتتابع: "وفي عام 1984 تمَّ استدعائي
بعد خروجي مرة جديدة على خلفية وشاية أخرى بهدف أخذ معلومات مني، ولكنهم لم يملكوا
أي دليل ملموس ضدي، ويومها فتشوا منزلي وألبوم الصور خاصتي وأخذوا كل الصور التي
كانت تثير شبهتهم وعادوا وأطلقوني بسبب غياب الدلائل"، لتنهي حديثها بالقول:
"رغم أنني أتحدث عن معاناتي، إلا أن ذلك لا يعني أن ما حصل معي قد أسهم ولو
بقيد أنملة في إزاحتي عن طريق النضال. فأنا حالياً في اتحاد المرأة، ولن أترك
واجبي الوطني أبداً ومستعدة اليوم قبل الغد لأنفذ أي مهمة تطلب مني في سبيل الوطن
مهما كانت، فقضيتنا صميم عملنا وسنبقى نكافح ونناضل لم تكن التجربة التي مررت سوى
دفعة زادت من عزيمتي وإصراري".
صالحة الحسين:
استهلَّت
حديثها بالقول: "كانت بداياتي في العمل التنظيمي في حركة "فتح" مع
اتحاد المرأة، كما عملت في الأمن في منطقة الفاكهاني في بيروت، وخضعت لتدريبات
عسكرية، وهكذا بدأت بممارسة الأعمال النضالية من خلال نقل الأسلحة والمال. أخذوني،
بعد مداهمة بيتي، لمدرسة الشجرة في الساعة الثانية فجراً بتهمة نقل المال وتوزيعه.
وخلال التحقيق حاولوا إخافتي من خلال جلب كلب كبير وتهديدي بجعله يهجم عليَّ في
حال لم أزودهم بالمعلومات التي يريدونها. وهكذا كان التعذيب نفسياً أكثر منه
جسدياً، غير أنني لم أضعف أو أتأثر. وبقينا على هذه الحال مدة ثلاثة أشهر لم يكن
يسمح فيها لأي أحد بزيارتنا. وقد كنت متعبةً نفسياً ولكنني لم أكن خائفة"،
وتضيف: "عندما يئسوا مني، أفرجوا عني فعدت بمفردي إلى البيت في الساعة
الثانية فجراً، ولكنني لم أوقف عملي النضالي وبقيت أزاوله، وأنا الآن عضو في اتحاد
المرأة. لذا ومن منطلق تجربتي فإنني أدعو الجميع وبشكل خاص المرأة الفلسطينية
للتمسك بالثوابت الوطنية، وتأدية واجبها النضالي بشتى الوسائل المتاحة لها".
لمعات محمد طه:
أمَّا
لمعات طه فلها تجربة فريدة من نوعها مع الأسر. فقد كان عمرها حوالي 14 عاماً عندما
قُصف ملجأ الحولة، الذي كانت تحتمي فيه هي وعائلتها وعدد كبير من العائلات،
بالقنابل الفسفورية المحرَّمة دولياً، فكانت من الناجيين بأعجوبة من هذا الحدث
الأليم، إلا أنها أصيبت بحروق وتشوهات متعددة. نقلها أحد الأشخاص للإسعاف خارج
المخيم ولكنَّ القوات الصهيونية أبقتها لساعات طويلة قيد الاحتجاز قبل نقلها إلى
مستشفى تبنين حيث مكثت أسبوعين، ومنه إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عن طريق نجمة
داوود الحمراء، وذلك لدفع أبناء المخيم لتسليم أنفسهم. وعن نوع المعاناة التي
تعرَّضت لها تقول لمعات: "قاموا بضربي وتعذيبي حتى وهم ينقلونني من مكان
لآخر. وكنت استيقظ لأجدهم يضعون الأسلحة إلى جانب رأسي ويحيطون بي من كل مكان، كما
كانوا يتعمدون لمسي وإمساكي من أماكن إصابتي، وبقيت في الأراضي الفلسطينية مدة
شهرين إلى أن تمَّ تسليمي من خلال صفقة التبادل". وعن ما تركته هذه الحادثة
في نفسها تقول: "وقتها كنت أفضل الموت على ما حدث لي، وكنت أبكي كلما رأيت
وجهي في المرآة. كذلك فقد خلَّفت الحادثة أثراً غريباً في رأسي، حيثُ أنني في
تاريخ تعرُّضي للإصابة في كل عام أشعر بألم شديد في رأسي لا يلبث أن يزول بعد بضعة
أيام ليعود في العام الذي بعده في التاريخ نفسه. ولعل هذه المفارقة أصلاً هي ما
أعطتني القوة والاندفاع ومكَّنني من التأقلم مع وضعي، فأحسست بدفعة جديدة تنبض في
نفسي وتدفعني للعمل النضالي وكأن الله أعطاني قوة لأناضل، فقد كنت منذ صغري منتسبة
الى حركة "فتح"، وحالياً أعمل في مكتب المرأة الحركي، وأنا الآن على
استعداد للقيام بأي مهمة تُطلب مني وإن كانت مهمة استشهادية دفاعاً عن وطني
وانتقاماً من الصهاينة. ولكنني أيضاً أسجِّل عتباً لأن حقي لم يصلني وأتمنى أن
يشعر المعنيون بي وبوضعي. كما أتوجه بالتحية لجميع الفلسطينيين وأطلب منهم أن
يكونوا أقوى مما هم عليه وأن يستمروا بالنضال حتى الانتصار على العدو الصهيوني
واستعادة الأرض".
المصدر: ولاء رشيد - مجلة القدس