مقابلة: أم وسام قاسم «هدية زيد».. إبداع رغم وخز الإبر
بحثنا عن أنموذج من الأمهات زرعت وروداً وسط أشواك المآسي فأزهر بستانها ثماراً يافعة بعد أن روته بدل الدموع والآهات إرادة وإصرارا وجهدا حثيثا وشذّبت أطرافه قبل أن يلحقها يبس الحرمان مغذية جذوره بحبيبات من النور والأمل، حتى إذا سألتَ جيرانه أجابوك بثقة العارفين إن أردت أن تتعرّف على أمّ ربّت وعلّمت وصبرت ونالت ما إلك إلاّ "أم وسام"، قصدناها في مشغل الخياطة حيث تعمل وعُدنا إليكم بثوب من المعاني الرائعة مطرّز بتجارب كثيرة تفوح منه رائحة الصبر والأمل بمستقبل مشرق.
بداية حبذا لو تعرّفينا عن نفسك؟
أنا أم وسام قاسم (هدية زيد) أرملة المرحوم رشيد قاسم من قضاء صفد وزوجي من قضاء حيفا، عمري 52 سنة من سكان مخيم نهر البارد، أنهيت البكالوريا وعندي 4 شباب وبنتان.
حدّثينا عن أولادك أعمارهم ومستوياتهم العلميّة؟
عندي وسام (28 سنة) هندسة مدنية سافر الى الإمارات للبحث عن عمل.
وسيم(26سنة)هندسة كهرباء تخرّج من الجامعة العربية واتجه الى إفريقيا وهو من المتفوقين حصل على منحة من صندوق الطلاب وما زال مديونا للجامعة بـ 12 ألف $.
وليد(24سنة)هندسة الكترونيات وثالث سنة أدب إنكليزي.
وجدي(21 سنة) إدارة أعمال تعرّض لجلطة في الرجل وأجرينا له عملية وهو الآن بصحة جيدة والحمد لله.
نسرين (19 سنة) كيمياء سنة ثانية في الجامعة العربية وهي متميزة جداً ومتفوقة حصلت على منحة من الجامعة 85% لحصولها على درجات عالية وأحاول تسديد ما تبقى من قسطها.
نرمين (15 سنة) وهي في المدرسة من المتفوقين كإخوانها ولله الحمد.
ما سبب وفاة زوجك وكيف واجهت مرحلة فراقه؟
أصيب زوجي بمرض أكزيما في الرجلين وخضع للعلاج لفترة طويلة حيث أحضرنا له الأدوية اللازمة، وبعدها أصابته جلطة في المريء وخلال عشرة أيام فارق الحياة في العام 2001.
كانت مرحلة صعبة جدا وعندما تلقيت خبر وفاة زوجي لم أصرخ ولم أنطق بشيء فقط انهمرت دموعي، وكان يوجد معي أشخاص في المستشفى أعطوني كوب ماء وقالوا لي أن هذا الكوب قٌرئ عليه آيات الصبر فشربت منه وهدأت نفسي قليلا. وداومت على قراءة القرآن وخاصة وقت العدة والأهل دعموني ووقفوا جنبي.
هل كان لوفاة "أبو وسام" آثار سلبية على أبنائك وكيف ساندتهم لتخطيها؟
تأثّر أبنائي بوفاة والدهم، وأذكر موقفا حدث حينها مع ابنتي الصغيرة حيث تركتها في لبنان وذهبت مع والدها للعلاج في سوريا فتوفي زوجي هناك وعندما عدت كانت تردّد على مسامعي عبارة مؤثرة جدا فتقول: "هلأ بدّي أبوي أخذتيه وما رجعتيه معاك".
حاولت قدر المستطاع أن أعوّض أبنائي حرمان الأب فساندتهم مادياً من خلال عملي ونفسياً لأني معهم دائما. فإن قال لي أحدهم رفيقي أحضر له والده كذا أسأله ماذا أحضر له؟ وأحضر له المطلوب، وإن طلبوا مني مبلغا من المال ولو ألف ليرة أبحث عن فكرة في الخياطة حتى أنتج هذا الألف.
مشوارك مع الخياطة طويل وتعلّقك بالماكينة كبير، أخبرينا عن هذه المهنة وكيف طوّرت مهاراتك فيها؟
منذ ثلاثين سنة أعمل في الخياطة، علّمت الخياطة في مركز واستلمت مشاريع خياطة كاملة لعدّة سنوات، وأعمل منذ 4 سنوات في مركز المرأة الفلسطينية للتراث، والطلبات الخاصة أتابعها في المنزل، حيث أمضي أكثر من نصف وقتي على الماكينة فقد رافقتني في مشوار حياتي وساندتني في الحياة.
طوّرت مهاراتي في الخياطة حيث شاركت في دورة وتدرّبت على برنامج يخوّلني أن أصنع مطرزات على الكمبيوتر، ولكن خسرنا هذا البرنامج كما خسرت الماكينة الخاصة بي بعد حرب مخيم نهر البارد.
وبالإضافة إلى الخياطة نزلت بعد وفاة زوجي إلى المسلخ حيث كان يعمل وذلك لأنظفه وأقوم ببعض الأعمال مع أولادي وبقيت أربع أو خمس سنوات على هذا الحال، كما ساعدت زوجي قبل وفاته بالحدادة على قدر استطاعتي. ولا مشكلة عندي في ذلك فأنا ضد أي امرأة لا تنتج وتساعد زوجها خاصة في أيامنا الصعبة هذه.
وأولادي يقدّرون عملي ويفخرون بي ويشعرون معي حتى كانوا يقولون لرفاقهم عندما استلمت المسلخ "أمنا مديرة" فالحمد لله الكل يفتخر بي حتى أهل زوجي والأقارب.
هل من دافع وراء إصرارك بأن يكون أولادك من المتفوقين علميا وتربويا؟ وكيف وفٌّقت بين العمل والاهتمام بتعليم الأولاد؟
نعم دفعتني عبارة كان يردّدها أبو وسام لأولاده دائما وهي "أقطع لحم كتفي بس تتعلموا يابا" وأنا أريد نفس الهدف، لذلك عشت كل لحظة لدراستهم ولم أعتمد على درس خصوصي كما تفعل الأمهات واذا اضطررت أن استعين بأستاذ بعد أن يرجعوا الى المنزل أقارن إجابات الأستاذ بالكتاب لأتأكد من صحتها.
واتّخذت عهدا على نفسي أن لا أستقبل طلبات خياطة أثناء فترة امتحانات أولادي، وأتفرغ لهم بشكل كلّي وأكرّس حياتي لهم. كما لا أرهقهم بعمل المنزل حتى يبدعوا ويتفوقوا خاصة وهم دون الصف التاسع.
حتى وأنا في المحنة لم أهمل متابعة واجباتهم الدراسية فعند وفاة زوجي كانت ابنتي في الروضة وكنت متضايقة جدا ولا أستطيع تدريسها كما يجب فأحضرت كتبا مطابقة لمنهجها يوجد عليها الحلول حتى تقارن الإجابات بنفسها. وكنت أرسل وراء ابنتي لأتابع لها دروسها وانا في مشغل الخياطة. والحمد لله ربي أكرمني بأولادي، فعندما تجدين نتيجة الصبر تقوين فالصبر يقويك.
ما هي أبرز الصعوبات التي واجهتك في حياتك؟
واجهت وما زلت أواجه صعوبات مادية خاصة بعدما دخل أولادي الجامعات فأقساطهم تثقل كاهلي، بالإضافة لصعوبات السكن فبعد حرب البارد سكنت وأولادي في بيت أهلي مع أمي وأبي وأخ عاجز وأخت كبيرة في السن والمنزل ايجار ووضعه سيء، فبيتي يحتاج الى ترميم نتيجة الحرب.
كما أصبت بجلطة دماغية ونزيف دم في الرأس خلال الحرب التي حدثت في نهر البارد، فذهبت للعلاج في سوريا وخشي الأطباء أن أفقد نظري فأظلموا علي الغرفة كي لا تُضرب شبكة العين، وفقدت الذاكرة حتى لم أعد أذكر شيئاً ولم يبق في خيالي إلا ما كنت قد حفظته عن ظهر قلب من القرآن.
وبقيت حوالي السنة حتى تمكنت من القراءة بشكل جيد، حتى أولادي وجدت صعوبة في تدريسهم خلال هذه الفترة مما أدى الى تراجع مستواهم في هذه المحنة ورغم ذلك "كنت آجي على حالي وأعمل على الماكينة".
ما هي هوايات المرأة الخمسينية وهل لك من طموحات على الصعيد الشخصي؟
أحبّ المطالعة كثيرا فكل يوم أقرا ولو القليل، وقد علمتني القراءة أشياء كثيرة واستفدت من مطالعتي خلال التجارب التي مررت بها، وأنا لا أرغب بالخروج الكثير من المنزل للصبحيات والزيارات وما شابه، كما أحضر درس قرآن كريم مرة في الأسبوع. أمّا عن طموحي فهو لا يتوقف حيث لا أطيق الفراغ لأنه قاتل ويعيد الآلام وعندما أزوّج أبنائي سأتابع بإذن الله دراسة الشريعة في الجامعة.
هل من كلمة توجهينها إلى النساء اللواتي فقدن المعيل؟
أتوجه بالنصيحة لكلّ امرأة أن تتعلم أي مهنة لأنها لا تعرف ما يخفيه الزمن عنها فمن خلال مهنتها أو شهادتها تستفيد وتفيد، وأتمنى على كلّ أمّ أن تتسلح بسلاح الإيمان بالله "ولا يصيبكم الا ما كتب الله لكم".
ماذا تقولين لأهل الخير؟
أقول لأهل الخير الله يبارك فيكم وما تقدمونه في ميزان حسناتكم، كما أشكر كل إنسان سعى معي ليوصلني إلى بر الأمان.
هي أمّ فلسطينية تتلعثم العبارات حين تصف تضحياتها وتضيع الكلمات بحثاً عن أساليب تصف صبرها وإصرارها، ولكن النظرات إليها لا مجال إلاّ أن تكون مليئة بالاحترام والتقدير حيث حاكت أنامل يديها أجمل لوحات النجاح والتفوّق رغم وخز الإبر...
فمثل هذه أمهات تستحق منا الكثير من التهنئة والتبريكات بالإضافة إلى الدعم المتواصل لتجود وتجود.
هبة مركيز – مخيم نهر البارد
نشرة أسرتي الصادرة عن وقف رعاية الأسرة الفلسطينية واللبنانية وفرة (العدد الثالث عشر – نيسان 2012)