القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

رؤوس اللاجئين ترتفع فخراً بالعائدين الشهداء والجرحى والسالمين

رؤوس اللاجئين ترتفع فخراً بالعائدين الشهداء والجرحى والسالمين
 
 
الثلاثاء 17 أيار 2011
سعدى علوه - السفير

قبل موعد «مسيرة العودة»، نظمت منار شامية في «مركز الشباب والفتوة» في مخيم شاتيلا، حلقات توعية حول كيفية ضبط النفس في مارون الراس، وضرورة عدم الخروج عن تعليمات المنظمين. وقال أبو مجاهد ومنار للأهالي أن الحدود بعيدة عن تلة مارون حوالي ألف متر، و»لا خوف من أي حوادث أو مواجهات».
 
عند أعلى تلة مارون التي تمسك بيسارها منطقة جبل عامل وبيمينها الجليل الفلسطيني المحتل، خلعت منار بطاقة «الانضباط» عن صدرها، وركضت تسابق الشباب نحو الشريط الشائك.
 
نسيت الصبية العشرينية دورها وموقعها ولم تر سوى فلسطين. هناك، لم تعد منار عضوة في فرقة ضبط «العائدين»، عادت ابنة طبريا التي لا يفصلها عن أرضها سوى شريط شائك: «والأرض غالية، وصعب أن يردك شريط حديدي عن ارضك»، تقولها، والدموع تنساب على خديها مع كلماتها.
 
تظهر في المخيمات الفلسطينية في بيروت، صبيحة المجزرة التي ارتكبها الإسرائيليون بالفلسطينيين العائدين رمزياً إلى وطنهم، الكثير من الدموع.. دموع الفرح والتأثر. ويعرف المرء «شباب المسيرة»، كما يسمون الناس الذين شاركوا في مسيرة الأحد، من «مشيتهم». هم يتبخترون كـ»الطواويس»، ورؤوسهم مرفوعة. ألم يصلوا إلى فلسطين؟ ألم تطأ اقدام بعضهم، بعض ترابها؟ ألم يواجهوا الرصاص بصدورهم وبلحمهم الحي، وما ارتدّوا إلا بقوة الجيش اللبناني الذي عمد عناصره إلى ضرب بعضهم لسحبهم من محيط الشريط الحدودي؟ ألم يعودوا وبينهم 11 شهيداً و112 جريحاً، إصابات بعضهم خطرة؟
 
ومن حولهم، يطأطئ بعض من لم يشاركوا في المسيرة رؤوسهم: «نيالهم.. راحوا وضحوا وشاركوا، والأهم شافوا فلسطين»، يقولون، بغض النظر عما واجهوه من نار ودم هناك، فذلك حدث مؤلم ضمن مسيرة كبيرة، مسيرة القضية التي شهدت بالأمس محطة هامة على طريق تعزيز النضال، واستمراريته، والأهم: تأكيد حق العودة والتمسك به.
 
بروحية «المحطة الأساسية»، يتعامل المدرّس المتقاعد مفيد صادق (74 عاماً) مع مسيرة العودة. تقول جفون الرجل أنه بكى كثيراً. لم يكن ابن دير القاسي قد تجاوز الحادية عشرة من عمره حين هجر مع عائلته من أراضيهم في قضاء عكا في فلسطين. استعد الرجل لمسيرة الأحد للقاء الحبيبة بـ»ردية» ألفها للمناسبة. من على تلة مارون الراس، وقف وقال والدموع تغسل وجهه: «فلسطين الحبيبة كيف حالك / بعد ما الدهر والخون للأعداء حالك / ثقي سوف نعود بليل حالك / تحت راية فلسطين الموت طاب».
 
ويمكن للمرء أن يقول ما يريد في مخيمات بيروت، شرط ألا تشر، وإن من بعيد، إلى أن الذين استشهدوا فعلوا ذلك مجاناً. هم قاموا بما عليهم قبل شهادتهم التي توقعوها قبل رحيلهم. ودعوا امهاتهم وطلبوا رضاهن وركضوا نحو الشريط وهم ينطقون بالشهادة.أبو العواصف.. أبو الشهداء«عن أي موت مجاني نتحدث؟»، يسأل «ابو العواصف» كما كان الفدائيون الأوائل يسمون مفيد صادق، وقد ثبّت هو لقبه مع ولادة بكره «عواصف» وابنته «عاصفة». لدى «أبو العواصف» إحصاء مؤكد يفيد بمقتل 25 شاباً من مخيم برج البراجنة صعقاً بالكهرباء المتدلية في الشوارع وبين أنابيب المياه: «هم على الأٌقل استشهدوا فداء لفلسطين». هو نفسه، لام سنينه السبعين التي حالت بينه وبين الشريط: «63 عاماً من القهر والتهجير والظلم والحرمان، فماذا لدينا لنخسره؟».
 
سبق لأبي العواصف أن عاش حصار تل الزعتر. يومها، دفن ابنته البالغة من العمر اربع سنوات في أرض غرفته في المخيم، بعدما انقطع الحليب والمياه، فاستشهدت جائعة وعطشى. وهو ذاته الأب الذي عاد من غياب قسري في العام 1986 ليجد الناس وقد دفنوا ابنه، ابن الستة عشر ربيعاً، شهيد حرب المخيمات في غيابه. يحز في نفس الرجل، الذي لا يذكر محطة من محطات حياته إلا ويبكيها، أن تسمي بعض وسائل الإعلام شهداء الأمس بـ»القتلى.. فهل كانوا في نزهة وانقلبت حافلاتهم وماتوا؟».
 
للرجل الذي تسري العروبة في دمه، تاريخ طويل من نضال حرص أن يورثه لأبنائه. أسمى ابنه الثاني عبد الناصر، وعندما أنجب له عبد حفيداً، أسماه جمال. وانتقى لابنه الثالث اسم عرفات، ليعود ويسمي حفيده الثاني، ابن عرفات، ياسر، كما يقول وهو يمسح دمعه الذي سال مع ذكر ياسر عرفات، تماماً كما حصل مع اسم جمال عبد الناصر. يقول مفيد صادق أنه يمني ومصري وتونسي وليبي ولبناني وسوري و... قبل أن يكون فلسطينياً. يغلق أبو العواصف سبعينياته على حلم وحيد: «العودة إلى فلسطين، وإن بعد ألف عام». وقد أوصى الأحفاد قبل الأبناء أن يعيدوه معهم «لأنهم حتماً سيرجعون»، وإن بكيس نايلون أسود.. «أوصيتهم أن يلملموا عظامي ويدفنوني في احد حقول دير القاسي»، هناك حيث ما زال يذكر «كل دسكرة وحجر وصخرة وكمشة تراب»، كأنه قد تركها بـ»الأمس»، وليس قبل 63 عاماً.
 
يجلس أبو العواصف متأثراً إلى كرسي يستند إلى زقاق من أزقة برج البراجنة، وفي قلبه «فراشة ترقص» فرحاً. صحيح أن الرجل يبكي ويحزن على الشباب الشهداء كما على شهدائه، ولكنه بالأمس أيقن كم أن الفلسطينيين نجحوا في توريث قضيتهم لأبنائهم وأحفادهم. فها هو الجيل الثالث للنكبة يوازي في حماسته للعودة، أو يكاد يفوقها، تحرّق أولئك الذين تهجروا منها قبل ثلثي قرن من اليوم: «تأملي في أعمار الشهداء والجرحى وستعرفين، هذا ابن 16 عاماً وذاك ابن العشرين وأكبرهم لم يتجاوز الثلاثين سنة.. هؤلاء سيعيدون فلسطين، وإن لم يفلحوا فأبناؤهم، أو أحفادهم، فلسطين عائدة حتماً»... هكذا قالت له مسيرة الأمس، لا بل «هكذا قالت للعالم بأسره، وخصوصاً للإسرائيليين».ودّعوا أمهاتهم.. فهم أمام فلسطينما قالته المسيرة للعالم وللإسرائيليين، كان بلال كمال اسماعيل يقوله في عربة الإسعاف، إذ وصل لتوه إلى مستشفى حيفا في مخيم برج البراجنة. سبق لابن التاسعة عشرة ان رأى فلسطين إثر عدوان تموز 2006، للمرة الأولى. وقبل أن ينضم إلى الحافلات التي غادرت برج البراجنة برفقة شقيقيه واخته، ضم بلال امه وطلب رضاها. كان ابن الكابري، التي تشرف مارون الراس على خراجها البعيد، ينوي أن يصل إلى الشريط، وكان يعرف انه مشروع شهيد. امه نفسها لم ترافق عائلتها لأنها لا تتحمل رؤيتهم يقتلون امامها. قالت لهم: «روحوا الله يحميكم يا امي»، وتركتهم يذهبون.
 
عندما وصلت الجموع إلى مارون الراس، تفرق بلال واشقاؤه وركضوا جميعهم نحو السياج الحدودي: «مش ممكن تشوفي فلسطين وتقدري تبقي بعيدة»، يقول وهو مثبت على عربة المستشفى بعدما خضع في صور لعملية استئصال الرصاص من ركبته وساقه.
 
مع سقوط الشهيد الأول، وضع بلال هدفاً في رأسه: «بدي فوت ع فلسطين واستشهد هونيك». ولكن إصابته حالت دون تحقيق رغبته، فسحبه أصحابه إلى أعلى مارون، ومنها إلى مستشفى بنت جبيل.
 
المهم أن «الرسالة وصلت»، فالعودة إلى فلسطين والنضال لاسترجاعها ليست حكراً على من يعرفها من الأجداد والبالغين، ها هم الذين ولدوا في لبنان وسوريا والأردن وغزة والضفة الغربية، وفي أي مكان في العالم، لا يعرفون غير حلم العودة إليها سبيلا.
شقيق بلال سبقه إلى الشريط، ومن هناك، سحب هاتفه وهو يشهد بأن «لا إله إلا الله» ليطلب أمه، ويسألها الرضا، والسماح، قبل ان يسحبه عنصر من الجيش اللبناني ويعود به إلى أعلى التلة: «بس شفنا فلسطين نسينا حالنا، وما فكرنا بالموت.. الموت كرمالها آخر هم»، يقول حسام إسماعيل الذي لم يبق مع شقيقه بلال في المستشفى، ولم يكن قد عاد إلى البيت بعد.
 
هناك، عند الشريط، حرص حسام على تذكر كل كلمة انكليزية يعرفها. قال للإسرائيليين وهم يصوبون بنادقهم إلى صدور ورؤوس الشباب: «فلسطين لنا.. وسنعود، فلتتذكروا ذلك، ولتقولوه لأولادكم»، فعلا صوت الرصاص من حوله، وسقط بالقرب منه شاب من عين الحلوة. التقط حسام الشاب المصاب في عنقه، وقال له انطق بالشهادة: «وما إن أنهى الشهادة، حتى استشهد».فكّك الألغام في الحقلبدوره، نسي وسام محمد الحاج علي (36 عاماً)، الآتي من مخيم شاتيلا، الشريط الحدودي عندما وصل إلى المكان. تذكر ابن الستة وثلاثين عاماً خبرته العسكرية وبدأ بتفكيك الألغام من الحقل الذي دخله الشباب. يقول أنه لا يذكر عدد الألغام التي عطَّلها، كل ما يعرفه أنه أمضى وقته يفكفك الألغام من بين أقدام الشباب، ويطلب من بعضهم الابتعاد عما يصعب وصوله إليها، تجنباً لانفجارها بهم. بعد الانسحاب من منطقة السياج الحدوي، وقف ابن البروة على تلة مارون الراس، وحاول أن يرى ولو جزءاً صغيراً من بلدته.
 
مساعدة الآخرين هي ما قام به محمد احمد (23 عاماً). فخبرة أحمد واسعة في مجال الإسعاف، اكتسبها من عمله مع «الصليب الأحمر اللبناني». وصل إلى الشريط عندما انطلق الرصاص، فباشر هو مهماته الإسعافية. يقول انه والشباب كانوا يحملون المصابين من أسفل الوادي إلى أعالي التلة، من دون أي مساعدة في كثير من الأحيان.
 
تجارب الشباب في مارون كانت أمس محور الحلقات التي عقدت في مخيمات بيروت. لا يشبع المتجمعون حول العائدين من سماع تفاصيل ما حصل. أقفلت المخيمات دكاكينها ومدارسها وتفرغت لمسيرة العودة وذيولها. بعضهم جلس يروي أحلام من رحلوا. أولئك الشباب الجامعيون، في معظمهم، الذين سحرتهم رؤية فلسطين فنسيوا كل شيء وهبوا للقائها غير آبهين بأزيز الرصاص، «بل على العكس، كان العدد يتزايد مع كل طلقة ووسط أي معلومة عن سقوط شهيد أو جريح»، يقولون.
 
وفي مخيم مار الياس، كما في مخيمي برج البراجنة وشاتيلا، علا صوت الأناشيد الوطنية، على الرغم من عدم سقوط شهداء من أبناء المخيمات الثلاثة. فقد اقتصرت خسائر فلسطينيي بيروت على الجرحى، وقد نجا شاب من شاتيلا بأعجوبة بعدما زال عنه الخطر صباح أمس.
 
وقد اقفلت المدارس والمحال والمؤسسات الصغيرة والدكاكين ابوابها وتفرغ اللاجئون للحديث عن «عودة الأمس» ورمزيتها وأهميتها في مسيرة النضال الطويلة.«شهداء الشعب.. على الطريق الصحيح»في المخيمات الثلاثة، بدت النسوة متعبات من ذيول أمس الأول. إذ قضت الأمهات يوم المسيرة متنقلات بين الهواتف والطرقات، يحاولن الإطمئنان على الجميع، ومن بينهم أولادهن طبعاً، لكن، «كلهم أولادنا»، تقول ام محمد (من البروة) وهي «تورق» عيدان الملوخية الخضراء. يحب أحفاد أم محمد الملوخية من يدها، وهي تطهوها لهم احتفالاً بعودتهم سالمين: «بيحبوها ناعمة وخضرا»، تقول وهي تحمد الله لأنه نجاها «من التجربة» وهي على ابواب الثمانين عاماً.
 
أما محمد الجرشي من قرية «الفاسبيا في قضاء عكا»، فيمتلك تفسيراً أخر للحدث، يضيفه إلى تفسير «الرسالة النضالية». بالنسبة إليه، جسدت مسيرة الأمس محطة اساسية على صعيد تكريس الوحدة الفلسطينية: «لم ترفع إلا أعلام فلسطين، وسقط شهداء للشعب الفلسطيني، وليس للتنظيمات، نحن هنا على الطريق الصحيح لاستعادة فلسطين»، يقول.
 
ويعود مفيد صادق، المدرس المتقاعد من «الأونروا»، ليرسل قصيدة - رسالة إلى المسؤولين في بلادنا، بعد أن يشكر الشعب اللبناني على «فتح صدورهم قبل دورهم» للفلسطينيين، تقول: «لا تهجير ولا استيطان ولا توطين / طينة فلسطين اقدس واطهر طين / والله ما منحلف إلا بحياتها / منحوتين من صخراتها / مجبولين من ترابتها ورملاتها / ومن نبع الكوثر مياتها / ومن شجر الجنة شجراتها / ومحمد الدرة من دراتها / وآية الأخرس من آياتها / وفارس عودة من أكبر معجزاتها».