القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 30 تشرين الثاني 2024

9 أشهر مفاوضات بلا مخاض!

9 أشهر مفاوضات بلا مخاض!

عرفان نظام الدين

هناك مبدأ قانوني يقول: إن الأصول في العقود توافر حسن النية، وما نشهده الآن، وما تشهد عليه أعمال إسرائيل التهويدية والعدوانية والاستيطانية، وما خبرناه وعرفناه واكتوينا بناره عبر عشرات العقود من عمر الصراع العربي – الإسرائيلي أن حسن النية غير متوافر على الإطلاق، بل على العكس إن سوء النية هو السمة الأساسية للتعاطي الإسرائيلي مع كل قضية ومع كل مبادرة ومع كل مفصل من المفاصل.

فإذا كانت الأصول فاسدة من أساسها، فما هو المنتظر من هذه المفاوضات الوهمية التي انطلقت أخيراً بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية أميركية ملتبسة.

بل هناك من يسأل عن سرّ الغيرة الأميركية على التسوية، وعن دوافع وزير الخارجية الأميركي جون كيري لتجشم عناء السفر والقيام برحلات مكوكية عدة للتقريب بين وجهات النظر، بل الأحرى تشديد الضغط على الفلسطينيين للقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات على طريقة «الفن من أجل الفن»، أي التفاوض من أجل القول بأن خطوة ما قد تحققت وأن الجهود الأميركية أثمرت.

والجواب الراجح في هذا المجال هو ان الأوضاع في المنطقة، أو الفوضى غير الخلاقة، دفعت بواشنطن إلى القيام بحركة ما ولو شكلية لتنفيس الاحتقان وزرع سراب أمل في صحراء التعنت الإسرائيلي والتمادي في الغي والرفض الدائم والإصرار على إقامة مشاريع الاستيطان الاستعماري وتهويد الضفة الغربية بالكامل.

وهناك سؤال آخر مطروح من باب الدهشة والاستغراب وهو أين السرّ الكامن في تحديد فترة 9 أشهر كاملة لإنهاء المفاوضات، وهل المقصود تلبية الطلب الفلسطيني بوضع جدول زمني وتحديد مواعيد حتى لا تستمر المفاوضات إلى ما لا نهاية ويستمر معها المكر الصهيوني وأساليب المناورة والمماطلة وتجديد استخدام مخططات التهويد... أم أن المقصود الإيحاء بأن المفاوضات تشبه حالة حمل لا بد من أن تتبعها ولادة جنين يمكن البناء عليه وتربيته وتغذيته ليتحول إلى حل نهائي...

الأرجح أن التحديد تم عشوائياً، وأن هذا الحمل يشبه «الحمل الكاذب» لا مخاض فيه ولا ولادة، لا بعد 9 أشهر ولا قبلها، لأن الحل هو في ولادة قيصرية يعمل فيها الجراح بجد وحسم على فرض القواعد والأسلوب والنتائج من طريق إرغام إسرائيل على الرضوخ لإرادة السلام ووقف مناوراتها وتعنتها وإفهامها أن سياساتها ستودي بها إن آجلاً أو عاجلاً، وأن الأمن العالمي سيبقى مهدداً طالما أن الأزمة مستمرة بلا حل، وأن مصالح الولايات المتحدة لن تجد الأمن والحماية إلا بإنهاء هذه المأساة وتحقيق السلام العادل والدائم وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وكل ما عدا ذلك سراب في سراب وخراب في خراب، ومجرد تضييع وقت أو لعب في الزمن الضائع. فالمكتوب يُقرأ من عنوانه وهذه المفاوضات لم تبدأ إلا بالفرض، أي بالإكراه. فالفلسطينيون ذهبوا إلى الطاولة مخفورين من أجل حفنة من الدولارات، وعلى أمل إطلاق سراح مئة أسير فلسطيني فيما ذهب الإسرائيليون مسايرة للولايات المتحدة وتلبية لإلحاح كيري لغايات في نفس يعقوب، منها الادعاء بالاستجابة لنداء السلام وإثبات حسن النية... وقبض ثمن الموافقة نقداً وعدّاً وسلاحاً، وكسب الوقت لإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية. فعلى طريقة «أول دخوله شمعة على طوله»، استهلت إسرائيل طلائع المفاوضات بإقرار خطط جديدة لإقامة مستعمرات جديدة وتوسيع القديمة وطرد بدو النقب من أراضيهم التي توارثوها أباً عن جد لإقامة مستعمرات وإسكان المزيد من المستعمرين الصهاينة.

وكأننا نشهد اليوم مسرحية «تاجر البندقية» في ابتزاز الفلسطينيين وهو ما عبّر عنه أحد المسؤولين الفلسطينيين بقوله: «بعد فشل كيري في إقناع إسرائيل بالموافقة على أساس المفاوضات وهو حدود 1967 لجأ إلى مقايضة توقف الفلسطينيين عن التوجه إلى الأمم المتحدة بإطلاق إسرائيل أسرى ما قبل اتفاقيات أوسلو وعددهم 104 أسرى وتقديم مساعدات مالية إلى السلطة. وقد وافقنا على ذلك لعدم وجود خيارات أخرى، فإطلاق الأسرى الذين أمضوا بين 20 و32 سنة في السجون هدف أساسي نبيل يستحق القيام بخطوة من هذا النوع من أجله، كما أن الاقتصاد الفلسطيني المنهار يحتاج إلى دعم».

إذاً، هذا هو المغزى والمعنى الكامن وراء هذه المفاوضات الشكلية، على رغم كل الدفوعات التي ترد عليه لأن إطلاق الأسرى ليس منّة من إسرائيل، بل هو مطلب إنساني قانوني. ومع إبداء الفرح والسعادة لتحرير أسير واحد، علينا ألا ننسى أن هناك آلاف الأسرى المظلومين ومنهم نساء وأطفال وعجائز يرزحون تحت نير عذاب السجن الصهيوني، وهناك «مانديلا فلسطين» مروان البرغوثي القابع في السجن من دون أي مسوّغ قانوني، وهناك المئات من المضربين عن الطعام ومنهم السجين البطل عبدالله البرغوثي الذي يقترب من سكرات الموت في سجن العفولة.

أما بالنسبة إلى الأموال والاقتصاد المنهار، فإن المسؤولية تقع على الجميع: السلطة بسبب سنوات الفساد والهدر، والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة المطلوب منه أن يتحمل مسؤولياته في إقامة إسرائيل ودعمها بالمال والسلاح وتشجيعها على المضي في احتلال الأراضي العربية، ضاربة عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية وحقوق الإنسان. أما العرب فمنهم من قدم ومنهم من تناسى ومنهم من ملّ من التقديم، بينما القيادات الفلسطينية تتقاذف التهم وتمعن في سياسات التشرذم والتقسيم ورفض المصالحة لإعادة توحيد قطاع غزة والضفة الغربية ومواجهة إسرائيل والعالم صفاً واحداً وصوتاً واحداً ومعهم العرب كل العرب، أفراداً وحكومات.

ومن يطلع على «الميني مبادرة» الأميركية لا يجد فيها جديداً لأن اتفاقات أوسلو جاهزة للتنفيذ، وقرارات الشرعية الدولية حاضرة لا مجال للتلاعب بها وتقوم على عودة إسرائيل إلى حدود عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. أما القول إن الهدف من المفاوضات التوصل إلى حل نهائي لجميع القضايا الشائكة بين الطرفين والانتهاء منها بنجاح خلال فترة تسعة أشهر وصولاً إلى السلام، فهذا يصلح كبيت شعر وليس كبيت تبنى عليه ركائز السلام.

فالقضايا الشائكة كثيرة ومنها القدس وحدود الانسحاب والدولة الفلسطينية، وعودة اللاجئين تنفيذاً للقرارات الدولية والاستيطان الاستعماري غير الشرعي على الأراضي المحتلة وفي القدس العربية بالذات. وهذا يتطلب مبادرة واضحة وحاسمة ومتفقاً على خطوطها سلفاً على أن تبدأ بوادر حسن النية بوقف كل خطط الاستيطان.

وهناك قضية أخرى خطيرة تتعلق بإصرار إسرائيل على هوية يهودية الدولة، ما يعني وضع مصير أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني في مهب الريح وسط حديث عن تبادل الأراضي لتنفيذ خطط «الترانسفير»، أي ترحيل عرب الداخل وإجراءات التضييق عليهم وصولاً إلى مشروع قانون جديد يهدف إلى إخراج الأحزاب العربية من الكنيست من طريق رفع نسبة الحسم للدخول إليه، إلى 4 في المئة، ما سيحرم العرب من حقوقهم في الانتخابات المقبلة، إضافة إلى الخطة التي أشرت إليها لتهجير عرب النقب.

إزاء كل ذلك، تبدو المفاوضات الحالية وكأنها بنيت على باطل، وما بني على باطل فهو باطل، بخاصة مع تكرار الحديث عن مشروع إسرائيلي تطالب الولايات المتحدة بتجميله ويقوم على قرار اقامة الدولة الفلسطينية ذات الحدود الموقتة على 60 في المئة من مساحة الضفة وضم الباقي إلى إسرائيل بزعم المصالح الأمنية التي تشمل أيضاً ضم الكتل الاستيطانية واستئجار الأغوار لعقود طويلة.

هذا هو المشهد العام لواقع المفاوضات يبدو في شكل جلي أنه سوريالي لا أمل معه بالنجاح. ففترة التسعة أشهر لن تنتهي بمخاض، ولا ولادة، بل بإجهاض أو بموت الجنين في أيامه الأولى ولا عزاء للفلسطينيين... أما إسرائيل بزعامة بنيامين نتانياهو وليكودها ومتطرفيها فستأخذ فسحة أخرى من الوقت للمناورة والمماطلة حتى تنفذ خططها التوسعية وتكمل تهويد القدس وتمهد لهدم المسجد الأقصى، فيما العرب يتفرجون ويتلهون بحروبهم العبثية وصراعاتهم الدامية.

وأختتم مع مشهد أدمى قلبي وأنا أرى سيدة عربية تقاوم المحتلين في بلدتها بني صالح دفاعاً عن أرضها المغتصبة، فيعتدي عليها الجنود الصهاينة ثم يعتقلونها فيما أطفالها الثلاثة يقاومون الجنود ويبكون ويصرخون: «والله لنفضحكم في الإعلام»، ولكن أي إعلام... لا حياة لمن تنادي ولا من يتسم بنخوة المعتصم.

الحياة، لندن، 26/8/2013