أسئلة ملحّة مطروحة على الفلسطينيين وكياناتهم السياسية
بقلم: ماجد كيالي*
لا كهرباء في قطاع غزّة، وعن ذلك تنجم معاناة كبيرة فعلاً، لكنّ مشكلة الفلسطينيين لا تقف عند ذلك. فقضيتهم الوطنية، وكياناتهم السياسية، ونضالاتهم ضدّ عدوّهم، باتت كلّها أيضاً تفتقد للطاقة اللازمة لتغذيتها وتشغيل وظائفها وتجديد حيويّتها.
ليست القضية منوطة بموازين القوى المختلّة لغير مصلحة الفلسطينيين، ولا بالمعطيات العربية والدولية غير المؤاتية لهم، فهذان العنصران ظلا طوال العقود الماضية يعملان لغير مصلحتهم. كل المسألة تكمن في أن الفلسطينيين، في ما مضى، كانوا يمتلكون طاقة كفاحية مستمدّة من وجود مشروع وطني يغذّي آمالهم ومخيّلتهم، ومن كيانية سياسية جامعة متمثّلة بمنظمة التحرير توحّدهم وتعبّر عن طموحاتهم وتشكّل هويتهم، ومن قيادة شعبية، مسكونة بالرموز، من وزن ياسر عرفات، تلهب عزيمتهم، وتجدّد حيويّتهم بانفتاحها على مختلف الخيارات.
الآن، لم يعد يتوافر للفلسطينيين قيادة كهذه أو قيادة مجمع عليها، ولا مقاومة مسلحة ولا مقاومة سلمية أو شعبية ولا انتفاضة، ولم يعد لديهم مشروع وطني جامع وملهم، بعد أن ارتهنوا حصراً لمشروع المفاوضات، وبعد أن قتلت المشاريع الملهمة، سواء المتعلّقة بالتحرير أو بحلّ الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، أو المتعلّقة بحلّ الدولة الديموقراطية الواحدة بمختلف أشكالها (دولة المواطنين أو ثنائية «القومية»).
فوق كل ذلك فإن الفلسطينيين، في أماكن وجودهم كافة، يكادون يشعرون وكأنهم لم يعودوا شعباً واحداً، إلا في الشعر والشعارات والبيانات السياسية، إذ باتوا يفتقدون لإجماعاتهم السياسية والكيانية، بعد أن خسروا المنظمة ولم يربحوا السلطة، التي باتت رهينة السياسة الإسرائيلية، وبنتيجة الانقسام والتنازع بين «فتح» و «حماس»، وبين سلطتي الضفّة وغزّة، وبعد إزاحة قضية اللاجئين من الأجندة السياسية، وتهميش المنظمة، وهي كلها أوضاع تفتح على مسارات تباين المصالح والأولويات بين فلسطيني 48 وفلسطيني الضفّة وفلسطيني غزّة والفلسطينيين اللاجئين المواطنين في الأردن، والفلسطينيين اللاجئين في سورية ولبنان وباقي الدول، وفلسطينيي الشتات.
وما يزيد الوضع إيلاماً أن التدهور لهذه الدرجة يكاد يخرج إسرائيل من الموضوع، فالحركتان الرئيسيتان المتحكّمتان بالسلطة وبالشعب وبالموارد منشغلتان بالصراع المجاني فيما بينهما أكثر من انشغالهما بمصارعة إسرائيل، على رغم تقاربهما من الناحية السياسية باعتمادهما خيار الدولة المستقلة، وبانتهاجهما التهدئة والمقاومة الشعبية!
فقد باتت مشكلة «حماس» منحصرة في تأمين موازنات أجهزتها وحكومتها في غزة وفي رفع الحصار عن القطاع، الذي جرى اختزاله إلى فتح معبر رفح مع مصر، وتأمين الكهرباء، وكذا الحدّ من نفوذ غريمتها «فتح»، وفرض التهدئة على كل الفصائل، والتحكّم بحياة الفلسطينيين الذين يعانون الأمرّين نتيجة الحصار. أما مشكلة «فتح» فانحصرت في استقرار سلطتها وضمان الموارد المالية لتسيير عجلتها في الضفّة، وتعويم دور المنظمة من ناحية شكلية، بعد طول تغييب لها، والتركيز على التحركات السياسية الدولية لوقف الاستيطان واستمرار العملية التفاوضية والإفراج عن الأسرى.
هذه الأوضاع حوّلت القضية الفلسطينية من قضية تحرّر وطني لشعب يكافح ضد الاستعمار والعنصرية والهيمنة إلى قضية إغاثة إنسانية، وعلاقات ديبلوماسية، ودعم مالي، وتحسين أوضاع معيشية في المحافل الدولية والإقليمية. هذا ما تمّ التعبير عنه في قرار القمة العربية في بغداد، إذ غابت إسرائيل باعتبارها دولة احتلال عنصرية وعدوانية تتحدّى الوضع العربي، وظهرت باعتبارها مسؤولة، فقط، عن تعثر المفاوضات ومعارضة القرارات الدولية ومحاصرة غزة وعن الحفريات في القدس وعدم تحويل الأموال إلى السلطة، وحتى في سياق المطالبة بإخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل لم تذكر إسرائيل، وعندما تحدث القرار عن مبادرة السلام العربية (لمن يتذكّرها!) تم الحديث عن أنها «لن تبقى على الطاولة»، من دون تحديد ما الذي سيبقى على الطاولة!
الآن ما العمل؟ قبل الإجابة على ذلك ينبغي أن تجيب الكيانات والقيادات على السؤال الآتي: ما هي قضية فلسطين حقاً؟ فإذا كان الجواب أنها قضية عربية ـ إسرائيلية فهذا يستلزم ترتيب «البيت» وصوغ رؤية سياسية وانتهاج أشكال عمل تتناسب مع ذلك. وفي حال كان الجواب أنها قضية وطنية للفلسطينيين وعربية، في الوقت ذاته، فهذا أيضاً يفرض المستلزمات نفسها. مع العلم أنه ووفق التجربة لم يعد ثمة ترف لطرح هكذا نقاشات، لأنها لم تعد مقنعة، ولا تمثلات ملموسة لها على الأرض، في وضع تجد المجتمعات العربية نفسها مستغرقة في همومها الوطنية، وفي وضع ثبت فيه أنه ليس ثمة في الدول القائمة إجماعات وطنية، بمقدار ما فيها من توتّرات وتشقّقات ومنازعات.
أما إذا كانت الإجابة بأنها قضية وطنية تخصّ الفلسطينيين (على رغم وجود أبعاد عربية معيّنة لها) فهذا يتطلّب المزيد من التحديد، فهل هي قضية تخصّ وجود إسرائيل، التي قامت على حساب الفلسطينيين واللاجئين منهم خصوصاً؟ أم هي قضية تخصّ الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في عام 1967 ومسّ حياة الفلسطينيين في الضفة والقطاع؟
مهما كانت الإجابة على هذين السؤالين فإن ذلك يستوجب على الفلسطينيين إبداء أكبر قدر من ترتيب أوضاعهم، وصوغ أفضل العلاقات بين كياناتهم، وانتهاج أجدى الطرق لمواجهة عدوّهم، لكن ذلك يتطلّب من قياداتهم وكياناتهم المقرّرة، أيضاً، الوضوح المتمثّل بتخليق الرؤية السياسية التي يمكن أن تلهم شعبهم وأن تعزّز الإجماعات عنده.
هكذا، لا يمكن خوض أي خيار سياسي بتخلّي حركة وطنية ما عن قضية شعبها، باعتبارها قضية تحرّر وطني، وبوهم التحوّل إلى سلطة قبل إنجاز دحر الاحتلال، ولا يمكن تحشيد الشعب كله أو بعضه حول سلطة تثار حولها شبهات احتكار السياسة وتقييد الحريات مع الفساد والمحسوبية وخبوّ الروح الوطنية والتنسيق الأمني مع إسرائيل، ومع الحؤول دون تبلور أي شكل من أشكال المقاومة (المسلحة أو السلمية).
أيضاً لا يمكن جهة ما ادّعاء قيادة شعب، وهي تحصر خياراتها في خيار وحيد، فكيف إذا كانت هذه الجهة لا تهيئ ذاتها وشعبها لخيارات بديلة، كما لا يمكن ذلك مع بذل التنازلات المجانية، ومن دون مقابل مناسب، وضمن ذلك الذهاب نحو حلّ على شاكلة اتفاق «أوسلو» (1993) من دون معرفة نتيجته ومن دون البت بمسائل الاستيطان وحسم المدى الزمني وتعريف إسرائيل بصفتها دولة محتلة.
وبالتأكيد ليس من المشروع ولا من المجدي لقيادة شعب أن تتخلّى مجاناً عن رواية شعبها، ولو بادّعاء الانسجام مع القرارات الدولية، لأن هذه القرارات، في الحال الفلسطينية، لا تقرّ بواقع الاحتلال والاستيطان، أصلاً، ولأن الاعتراف بإسرائيل في الأمم المتحدة جرى بموجب القرار 272 (1949) المتضمّن قيام دولة عربية على 43 في المئة من أرض فلسطين، وضمان حق العودة للاجئين الذين شردوا من أراضيهم (والتعويض عليهم أيضاً)، ووضع منطقة القدس تحت وصاية دولية، مع العلم أن ثمة يهوداً إسرائيليين يشكّكون بالرواية الرسمية لدولتهم ويرفضون تعريفها كدولة يهودية أو دولة «حريديم» أو دولة مستوطنين لتناقض ذلك مع الديموقراطية ولأن هذا يطبعها بطابع ديني وعنصري.
الأهم من كل ذلك أن القيادات والكيانات الفلسطينية كلها معنية بإدراك أنها ليست وحدها من يحدّد طابع الصراع مع إسرائيل، ومداه، لأن الطرف الآخر المعني والمسيطر هو الذي يقرّر. هذا لا يعني أن اعتدال الخيارات والخطابات الفلسطينية وواقعيتها ليسا ذات معنى، وإنما هذا يعني أن اعتدال الفلسطينيين وحسن سلوكهم وتحولهم نحو التهدئة لا يكفي، وهذا ما أثبتته تجربة أوسلو المستمرة منذ عقدين، وتجربة قيادة أبو مازن خلال سبعة أعوام، وتجربة «حماس» ذاتها في غزة خلال الأعوام الماضية.
معنى ذلك أن الكيانات والقيادات السياسية معنية اليوم، وبعد كل هذا التدهور في وضع قضية الفلسطينيين وفي مستوى كفاحهم، بحسم أمورها على الأصعدة كافة، أي على صعيد المصالحة وإنهاء الانقسام ووقف الوظيفة الأمنية للسلطة، وتفعيل منظمة التحرير، واستعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني، على صعيد الخطابات والعلاقات والبنى والأشكال الكفاحية، مهما كانت طبيعتها، بخاصة أن خيار المقاومة الشعبية ـ السلمية يتطلب تعبئة أكثر وتنظيماً أفضل وجهداً أكبر.
هذا الوضع وحده هو الذي يمكن أن يغذّي طاقة الشعب الفلسطيني النضالية ويشعل الأمل في قلوب أبنائه، ويعزز هويتهم وإجماعاتهم الوطنية، وهو الوضع الذي يمكّن من إعادة وضع قضيتهم على الأجندة الدولية والإقليمية والعربية، باعتبارها قضية شرعية وعادلة وتخص شعباً يتوخّى التخلّص من الاحتلال والعنصرية والهيمنة.
* كاتب فلسطيني
المصدر: دار الحياة