أساطير مؤسِّسة للتطبيع
بقلم: أحمد الحاج
بنى النظام العربي
الرسمي نظريته حول التطبيع وضروراته على أساطير مؤسِسة: منها أن السعي نحو التطبيع
والسلام جاء بعد سلسلة من الحروب مع (إسرائيل)، وهو قرار اتُخذ بعد سنوات من
المواجهة. الأسطورة الثانية أن التطبيع يجلب الرخاء، وهو ما ردده كثير من الزعماء
العرب. الأسطورة الثالثة أن محاولات التطبيع تأتي رداً على خطر أكبر هو الخطر الذي
تمثله بعض دول الإقليم. الأسطورة الرابعة تقول إن التطبيع يمكن أن يؤدي إلىالسلام
الشامل في المنطقة.
الأسطورة الأولى تفضحها
اللقاءات المبكرة التي كان يعقدها قادة العرب مع قيادات العصابات الصهيونية بوقت
مبكر، قبل أعوام من إعلان قيام (دولة) الاحتلال. وأبرزها لقاءات الأمير عبد الله
(الملك لاحقاً) مع الزعيم الصهيوني حاييم
وايزمان.
وبعد عام 1948 حدثت
العديد من المحاولات العربية لإنشاء علاقات مباشرة مع الكيان الناشئ، لكن الأخير
ظل يرفض، لأنه كان يسعى إلى قضم المزيد من الأراضي العربية. ونكتفي بذكر بعض تلك
المحاولات.
في عام 1949 أجرى وفد
إسرائيلي برئاسة إلياهو ساسون مفاوضات مباشرة مع وفد أردني برئاسة وزير الدفاع
فوزي الملقي بهدف التوصل إلى سلام منفصل، في الوقت الذي كان الوفد يجري مفاوضات مع
ممثلي بيروت والقاهرة الذين أعلنوا استعدادهم للاعتراف بالحدود الإسرائيلية في
مقابل أن ترد الدولة اليهودية بعض الأراضي إلى لبنان في الشمال وإلى مصر في الجنوب.
وفي آذار/مارس 1949 تولى
قائد الجيش السوري العقيد حسني الزعيم زمام السلطة. وكان رئيس الدولة الجديد يحلم
قبل كل شيء بالمساعدات المالية والعسكرية من الغرب. وفي أوائل تموز/يوليو تقدم
باقتراح مثير بموجبه تستقبل سورية وتوطن في منطقة الجزيرة شمالي شرقي البلد ما بين
200.000 و300.000 لاجئ فلسطيني.
وأعلن الزعيم خلال الصيف
أنه مستعد للتفاوض مع بن غوريون في شأن معاهدة سلام، لكن بن غوريون رفض العرض رغم
وجود آراء في الحكومة الإسرائيلية كانت مؤيدة لقبول العرض. رفضت (إسرائيل) كل
العروض التي جرى تقديمها، وبعضها أمريكي، وكان جزء منها ينص على عودة جزء من اللاجئين
الفلسطينيين إلى ديارهم. وهو ما اعتبرته (إسرائيل) خطراً عليها يهدد يهودية
الدولة، ويجعلها دولة ثنائية القومية.عرضت سورية وقتها التفاوض على مستوى وزراء
الخارجية وهو ما رفضته (إسرائيل).
رأى آفي شلايم في كتابه
"تواطؤ عبر نهر الأردن" أنه "في سنة 1949 اعترف العرب بحق
(إسرائيل) في الوجود (مؤتمر لوزان). وقد أرادوا الجلوس معها وجهاً لوجه للتفاوض في
شأن السلام. وقد رفضت (إسرائيل) هذه المعطيات لا لأنها تتعارض مع استمرارها كدولة
مستقلة فحسب، بل أيضاً مع تصميمها على الاحتفاظ بكل الأراضي التي كانت تسيطر عليها
وعلى مقاومة عودة اللاجئين". أما ساسون فلخص كل ذلك
بقوله "يعتقد اليهود أنه يمكنهم التوصل إلى السلام من دون أن يدفعوا أي ثمن،
رخيصاً كان أو غالياً".
أبا إيبان، وزير
الخارجية الإسرائيلية فيما بعد، كتب يومها أن (إسرائيل) "ليست بحاجة إلى
السعي وراء السلام، فاتفاقية الهدنة تكفينا. فإذا طلبنا السلام سيطلب العرب منا
دفع ثمنه، إما الحدود وإما اللاجئون أو الاثنان معاً. فلننتظر بضعة أعوام".
أما بن غوريون فصرح بـ "أنا مستعد أن أنهض في منتصف الليل كي أوقع معاهدة
سلام، لكنني غير مستعجل ويمكنني الانتظار عشرة أعوام".
والمتابع بعد ذلك ما
كُشف عنه من رسائل الرئيس المصري جمال عبد الناصر لرئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه
شاريت عام 1954، يدرك حقيقة أن النظام العربي الرسمي كان دائماً يسعى للتسوية
والرفض الإسرائيلي كان ما يعيقها. إحدى هذه الرسائل تعود إلى عام 1954، وعرض فيها
عبد الناصر على شاريت، عبر مبعوثه الخاص إلى باريس عبدالرحمن صادق، إيجاد حل
للنزاع بين مصر و(إسرائيل) والتوصل إلى سلام بينهما.
وفي مقال له بعد عام من
ذلك التاريخ يورد عبد الناصر أن "هناك خطة أخرى لاستصلاح 50 ألف فدان في شمال
سيناء ليستفيد منها اللاجئون الفلسطينيون"، وهو صدى لمشروع دولي لتوطين
اللاجئين الفلسطينيين في سيناء. ولا حاجة للتذكير بقبول عبد الناصر بمشروع روجرز
بعد ذلك بسنوات، وحماسة الرئيس السوري حافظ الأسد ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية
ياسر عرفات لمؤتمر جنيف للتسوية عام 1973. لكن العائق كان في كل مرة الرفض الإسرائيلي.
طالما كان التعلل بخوف
من خطر خارجي سبباً ساقه زعماء عرب ومسلمون لفتح علاقات مع الكيان الصهيوني.
واليوم مع اشتعال حروب، على أكثر من بقعة عربية، بين إيران ودول عربية، تبدو هذه
الذريعة، بالنسبة إلى هؤلاء المطبعين، صالحة أكثر من أي وقت مضى. هكذا حاول المطبع
أنور عشقي تبرير زيارته للكيان، وهكذا علل قبله بعض الإيرانيين في الثمانينيات
انفتاحهم العسكري على الكيان. وفي كلا الحالتين كان الالتفات إلى المصالحة
الإسلامية الإسلامية أولى، وكان أفضل للجهد المبذول للعلاقة مع الكيان أن يكون
جهداً في إصلاح ذات البين.
توهّم دعاة التطبيع أن
الانفتاح على الكيان الصهيوني سيكون له آثاره الاقتصادية المباشرة. هكذا ظن حسني
الزعيم، وأعلن عن ذلك. وهكذا تحدث الرئيس المصري أنور السادات عن مصر التي "ستصبح
سنغافورة". وليس أدل على فشل كل تلك الآمال من الواقع المصري في ظل التسوية.
مع العلم أن واقع الاقتصاد المصري قبل التسوية بسنوات قليلة كان أفضل بكثير، نتيجة
انفتاح السوق الخليجية على العمالة المصرية، والتحويلات، والمساعدات العربية
المباشرة لمصر. لقد أثبتت تجارب تلك الدول إن إنعاش الدولة لا يتم إلا من خلال
إصلاح المؤسسات، ووجود رؤية تنموية نهضوية تؤثر بالعقل والسلوك الاجتماعي، لا
باستجداء تطبيع وتسوية.
من الأساطير المؤسسة
للتطبيع أن الأخير يمكن أن يحدث تغييراً في العقل الإسرائيلي ونظرته للتسوية. لكن
الواقع المعاش، وسنوات التطبيع على كل مستوياته، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن
التطبيع قاد المجتمع الإسرائيلي إلى مزيد من التزمّت فيما يخص التسوية. ورسّخ
الاعتقاد لدى هذا المجتمع أنه قطف ثمار التسوية دون الخضوع لمتطلباتها بالانسحاب من
أراضٍ عربية محتلة.
يتجاهل دعاة التطبيع
بنية المجتمع الإسرائيلي، وبنية جيش الاحتلال، الآخذة شيئاً فشيئاً نحو مزيد من
اليمينية، ولا يمكن أن تغير اتجاه هذا المسار بضع قبلاتلن يعيش تأثيرها أكثر ممّا
عاش صوتها.