أسرار غزة العزة .. مشاعر مكبوتة ومشاهد مكتوبة
بقلم: د. أكرم العدلوني
الحنين إلى الوطن لم يتوقف لحظة في حياة أي مواطن فلسطيني، وقد تتعدد أشكال التعبير عن هذا الحنين؛ فمنّا من يعبّر عن حنينه شعراً ونثراً، ومنّا من يعبّر عنه رسماً ونحتاً، وكثيرون شوقاً ودعاء، وآخرون تعليماً واحترافاً، والبعض فكراً وإبداعاً، والمحظوظون جهاداً واستشهاداً. ورغم أني لم أسكن وطني فلسطين في عروس البحر "عكا" إلا أنه يسكنني أينما حللت أو ارتحلت. ويوم أن جاءتني دعوة كريمة لزيارة غزة مع قافلة "أميال من الابتسامات" خفق قلبي وسبقتني روحي إلى هناك (لأنه كان حلماً يساورني منذ مدة)، وساعة وصولي إليها ووطأت بقدميّ ترابها تملكتني مشاعر وأحاسيس تتجاوز الكلمات ويعجز البيان واللسان عن البوح بها .. فآثرت أن أضمرها و"أكبتها" في نفسي لنفسي.
ولكن إن سمحتُ لنفسي أن أضمر مشاعري، فلن أغفر لها إن منعتني من كتابة أهم مشاهداتي التي قادتني إلى مجموعة من "الأسرار" اكتشفتها أثناء هذه الزيارة، أسرار جعلت أهل غزة يستحقون لقب "غزة العزة". لم تكن مدة الزيارة سوى خمسة أيام، ولكنني كنت في كل يوم أشاهد عشرات المشاهد المعبّرة عن عمق هذه الأسرار. لقد تأكد لي عمقها لدى الرجال والنساء، والشباب والكهول، والأطفال والكبار، لقد شاهدتها لدى السياسيين والمقاومين، في المسجد والبرلمان، في البيت والشارع، في مجالس العزاء وصالات الأفراح، في المخيمات والمدن. لقد شاهدتها عندما قابلت رئيس الوزراء الأخ القائد "أبو العبد"، ولدى نائب رئيس المجلس التشريعي الأخ القائد الدكتور "أبو أكرم بحر"، لقد شاهدتها وأنا أتجول في جنبات الصرح الشامخ في الجامعة الإسلامية مع رئيسها المميّز الأخ الدكتور "كمالين شعث". لقد شاهدتها وأحسست بها عندما التقيت بالمقاومين والمرابطين في أماكن رباطهم وأنفاقهم، لقد شاهدتها عند زيارتي لزوجات الشهداء وعلى رأسهن "أم محمد الرنتيسي" سفيرة الجهاد والمقاومة، و"أم الحسن أبو شنب" المربية القدوة الصابرة المحتسبة، لقد شاهدتها لدى زيارتي لمنزل وعائلة شيخ شهداء فلسطين "أحمد الياسين" الإمام المعلم، و"عائلة القائد الجعبري" صانع النصر والاستشهاد معاً.
لقد التقيت أثناء زيارتي بإعلاميين وسياسيين وباحثين وفلاحين وعمال وبائعين وسواقين ومهنيين.. وغيرهم، والتقيت بأقاربي من بني عمومتي "عائلة العدلوني" التي أنجبت أمثال "رشا العدلوني" زوجة الشهيد صقر فلسطين د. عبد العزيز الرنتيسي، وأقاربي من بني أخوالي "عائلة أبو سويرح" التي أنجبت شهداء وقادة من أمثال الشهيد جهاد أبو سويرح. لقد التقيت ببعض حفّاظ كتاب الله عز وجل وفي مقدمهم شيخهم صاحب الفضل بعد الله تعالى الدكتور الجليل "عبد الرحمن الجمل" الذي خرّج حتى الآن أكثر من أربعين ألف حافظ وحافظة للقرآن. لقد قابلت أناساً يعملون في النهار في متاجرهم أو مزارعهم أو جامعاتهم أو مدارسهم، إلا أنهم في الليل وعند الطلب مقاتلون مجاهدون يلبون نداء المقاومة والمرابطة. لقد عشت خمسة أيام مع مجتمع مقاوم؛ همه الأكبر الاستمرار في المقاومة والمضي في التحرير بل إنجاز التحرير، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم وإلى المسجد الأقصى المبارك وإقامة دولتهم وعاصمتها القدس.
إن مجتمع غزة استحق لقب "مجتمع العزة والكرامة" و"مجتمع الحصون والقلاع" و"مجتمع المقاومة والتحرير" عن جدارة وبدرجة امتياز. وأسرار هذا الاستحقاق –وهنا بيت القصيد من مقالتي- عشرة كاملة، بمثابة "منظومة عمل" و"وصفة نصر" و"عدة تحرير". لقد حفظت ودرّست وحاولت أن أعيش هذه العشرة مع إخواني سابقاً، ولكن إخواني هناك في غزة قد ترجموا وجسّدوا هذه "التعاليم" فجعلوها بحق "أسرار الاستحقاق": فـ "آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها". فما هذه الأسرار؟
السر الأول: فهم الدين: لقد أيقن أهل غزة العزة بأن "فكرتهم إسلامية صميمة، ففهموا أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء". ولهذا هم يهتفون في مهرجاناتهم ومسيراتهم واحتفالاتهم: (القرآن دستورنا والرسول قدوتنا).
السر الثاني: الإخلاص لله: لقد قصد أهل غزة –والله حسيبهم- بقولهم وعملهم وجهادهم كله "وجه الله، وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك كانوا جنود فكرة وعقيدة، لا جنود غرض ومنفعة، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ولهذا هم يهتفون (الله غايتنا) و(الله أكبر ولله الحمد)".
السر الثالث: العمل المتواصل: لقد أدرك أهل غزة "أن ثمرة العلم والإخلاص هو العمل؛ (وَقُلِ اعْمَلُوا)، ومراتب العمل المطلوبة عندهم هي: إصلاح النفس (لقد رأيت ذلك في المساجد ومعاهد تحفيظ القرآن)، وتكوين البيت المسلم (لمستها في مظاهر الحياة وحسن التنشئة للأولاد)، وإرشاد المجتمع (أحسست بهذا في نشر الدعوة والفضيلة)، وتحرير الوطن (شاهدتها عند زيارة المحررات بعد طرد الصهاينة من المستوطنات)، وإصلاح الحكومة (لقد امتلأت غزة أمناً وأماناً بعد أن انتخبهم الشعب وقادوا الحكومة وعملوا كخادم لدى الشعب وأجير عنده)، وتحرير الأوطان (شاهدت ذلك في معركة الفرقان واليوم في معركة السجيل) وما زالت غزة ترفع شعار (للتحرير ماضون) بإذن الله، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية (لقد شاهدت الوفود الزائرة من أنحاء العالم لمناصرتها وكسر الحصار عنها) لقد جمعت الأمة في ذكرى انطلاقة حركة حماس الخامسة والعشرين. لقد كان الناس، يروا ذلك خيالاً، ولكن أهل غزة يرونها حقيقة، لأنهم لم ولن ييأسوا أبدا، ولهم في الله أعظم الأمل (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
السر الرابع: الجهاد والمقاومة: لقد آمنت غزة بأن الجهاد هو "الفريضة الماضية إلى يوم القيامة والمقصود بقول رسول الله (ص): (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية)، وأول مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، ولا تحيا دعوة إلا بالجهاد، وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها، وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها، وجزالة الثواب للعاملين (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ). ولأجل ذلك أنشؤوا كتائب القسام لمقاومة العدو الصهيوني، وها هم يهتفون دائماً (الجهاد سبيلنا).
السر الخامس: التضحية والبذل: لقد أعد أهل غزة أنفسهم لـ "بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل الفكرة تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل ومن قعد عن التضحية فهو آثم: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ). ولهذا قدمت غزة خيرة أبنائها وكوادرها وقادتها العظام شهداء في سبيل الله، وهذا هم يهتفون دوماً (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا).
السر السادس: السمع والطاعة: لقد تجسّد هذا السر في سلوك شباب غزة من خلال امتثال أمر قيادتهم وإنفاذه تواً في العسر واليسر والمنشط والمكره، لقد شاهدته في احترامهم للنظم والمبادئ العامة للجماعة، أمراً وطاعة لقيادتهم من غير تردد ولا مراجعة ولا شك ولا حرج، لأنهم يدركون إنهم في مرحلة التنفيذ وهي مرحلة جهاد لا هوادة فيه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية، وامتحان وابتلاء لا يصبر عليهما إلا الصادقون، ولا يكفل النجاح في هذه المرحلة إلا كمال الطاعة.
السر السابع: الثبات على المبدأ: لقد شاهدت رجال المقاومة في غزة رغم الحصار وصعوبة الحياة مدركين لمفهوم "أن يظل الأخ عاملاً مجاهداً في سبيل غايته مهما بعدت المدة وتطاولت السنوات والأعوام، حتى يلقى الله على ذلك وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية وإما الشهادة في النهاية، (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)، والوقت عندهم جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة".
السر الثامن: التجرد للفكرة: لقد تعلمت في غزة كيف يمكن "أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص، لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً)، والناس واحد من ستة أصناف: مسلم مجاهد، أو مسلم قاعد، أو مسلم آثم، أو ذمي معاهد، أو محايد، أو محارب، ولكل حكمه في ميزان الإسلام، وفى حدود هذه الأقسام توزن الأشخاص والهيئات، ويكون الولاء أو العداء".
السر التاسع: الأخـوَّة والمحبة: لقد تعلمت في غزة كيف "ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها، والأخوة أخت الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة: قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب: سلامة الصدر، وأعلاه: مرتبة الإيثار، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). لقد رأيت كيف يجد الأخ الصادق إخوانه أولى بنفسه من نفسه، لأنه إن لم يكن بهم، فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، (والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً).
السر العاشر: الثقة بالقيادة: لقد شاهدت في غزة كيف يكون "اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). والقائد جزء من الدعوة، ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها، ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات.
لقد ختم الإمام الشهيد حسن البنا رسالة التعاليم لإخوانه قائلاً: "فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين. وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غايتك، كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة". لهذا استحقت غزة لقب "غزة العزة".
المصدر: فلسطين أون لاين