أعطني حريتي
بقلم: سما حسن
قبل خمس سنوات، كنت أبعثر محتويات خزانة أمي بعينين
دامعتين، فقد مر على رحيلها عدة أشهر، وقررت أن أتبرع بحاجياتها وأستبقي قليلها، حين
تدحرجت قلادة غريبة الشكل على الأرض من أحد الرفوف، أسرعت لألتقطها بين أصابعي، وأمعنت
النظر فيها، وتذكرت أنني رأيت قلادات تشبهها من قبل، يرسلها الأسرى في سجون الاحتلال
هدايا لعائلاتهم، وكانوا يصنعونها من خامات بين أيديهم، وبصبرٍ وأناةٍ كثيرين، بسبب
طول الأيام والليالي المتشابهة التي يمضونها في سجون الاحتلال.
ليس الإنجاز الوحيد للأسرى صنع هذه المشغولات
والمنحوتات من كل شيء يقع بين أيديهم، مثل علب المعلبات الفارغة ومعجون الحلاقة وورق
تغليف الطعام المفضض، والتي تصبح تحفاً فنية تقام لها المعارض في مدن فلسطين، وتحوز
إعجاب الزوار، فيما توضع بطاقة صغيرة أمام كل تحفة فنية، تشير إلى أن صانعها في زنزانة
بمحكومية عالية. وقد استطاع أسرى تأليف كتب وإعداد دراسات، وإكمال تعليمهم داخل السجون،
وخرجوا إلى الحرية بشهادات عالية، وتبوأ كثيرون منهم مناصب رفيعة.
تمر في هذه الأيام احتفالية يوم الأسير الفلسطيني،
التي أُقرت في 1974، ويتم إحياء هذا اليوم في فلسطين والشتات. ولا يرتبط اختيار هذا
التاريخ بأية مناسبة بالأسرى، كذكرى إطلاق سراح أحدهم، أو وفاة آخر، أو ذكرى عملية
تبادل أسرى. لكنه يوم للوفاء لأسرى الحرية، وهو يتزامن هذا العام مع ارتقاء الأسير
المحرر، جعفر عوض، شهيداً، والذي أطلق الاحتلال سراحه بعد تفاقم وضعه الصحي، وهذا ما
دأبت عليه إسرائيل، حيث تطلق سراح الأسرى المرضى، بعد تأكدها من أنهم سيخرجون من سجونها
إلى المشافي، للعلاج من عدة أمراض، سببها الإهمال المتعمد.
وإذا كان جعفر عوض قد مات بسبب الإهمال، فغيره
من الأسرى خرجوا من السجن ليفجعوا بفناء عائلاتهم، أو وفاة أحد الوالدين اللذين طال
انتظارهما الابن الأسير، كما حدث مع الأسير، أيمن الفار. ظلت أمه تزوره سنوات في السجن،
وتحلم برؤيته حراً، لكن الموت عاجلها، ولم يتحقق حلمها، ليخرج الابن بعد وفاتها بعامين،
في صفقة تبادل.
كانت إسرائيل، في سنوات انتفاضة الحجارة، تتعمد
اعتقال الأطفال، وتسومهم أشد أنواع العذاب والتنكيل، لتسحب منهم اعترافات، وتطلق سراح
معظمهم، بعد تكبيد أهاليهم غرامات فادحة، وتنفيذها "سياسة تكسير العظام"،
حيث كان جنودها يستخدمون الهراوات الخشبية، بعد حشو تجويفها بالمعادن، وما زالت إسرائيل
تمارس اعتقال الأطفال، حتى بلغ عدد الأطفال الذين تعتقلهم كل عام 700، ضاربة بعرض الحائط
القانون الدولي واتفاقية حقوق الطفل العالمية، حيث لا يجيزان لها التعامل مع الأطفال
بهذه الطريقة التي تدمر مستقبلهم، ويصبح معظمهم مرضى نفسيين، بسبب هول وسائل التعذيب
التي عانوا منها.
وعلى الرغم من كل هذه الممارسات بحق الأسرى، كباراً
وصغاراً، إلا أنهم وذويهم تحدوا السجان، فاستطاعوا تهريب الأجهزة الخلوية، ليتواصلوا،
واستطاعوا أيضاً تهريب نطفهم لزرعها في أرحام زوجاتهم، دليلاً على إصرارهم على الحياة،
وتحدياً لازدواجية قوانين الاحتلال، حيث يسمح للسجين الجنائي بالاختلاء بزوجته والزيارات
البيتية، ويحرم السجين السياسي من ذلك، وقد بلغ عدد الأطفال الذين ولدوا من نطف مهربة
32، وأطلق عليهم اسم "سفراء الحرية".
تأملت القلادة، ورأيت حروف اسمي منقوشة عليها،
وتساءلت عمن يكون الأسير، الذي أرسلها لي، وقد نقش على إحدى خرزاتها المنحوتة من نوى
حبات الزيتون كلمة "نفحة"، اسم أحد سجون الاحتلال. لن أجد إجابات لتساؤلاتي
العبثية، وتمنيت لو تسلمت تلك القلادة، لاخترت انتظار صاحبها الأسير، مثل كثيرات من
نساء وفتيات فلسطين، اللواتي ينتظرن منذ سنوات أحبتهن خلف القضبان، ويعشن على أمل اللقاء،
ويقنعن بزيارات قصيرة متباعدة، يمر من خلالها حديث العيون والقلوب، مخترقاً أحدث أجهزة
المراقبة في السجون.
المصدر: العربي الجديد