أكتافنا
ما عادت للبنادق
ماهر
منصور
لاجئ
وأعيد سيرة أبي ... أصير لاجئاً مرتين. تخرج الصور من الحكايات، لتأخذ الذاكرة هنا
شكل المخيم، فأرى أبي طفلاً يحثّ الخطى خارج فلسطين، وأراني طفلاً معه، وخلفه،
وفيه، أحثّ الخطى خارج المخيم. هنا وهناك، كان طعم الخوف واحداً، وكان شكل الموت
واحداً، ولا فارق بين الموتين سوى القاتل. تتسع الحكاية القديمة، فتفيض على الواقع
بأوجاعها، تتسلل إلى مخيم اليرموك عبر ذاكرة الآباء والأجداد، ثم تخرج منه في وجوه
الأبناء وحيواتهم، صارت حكاية اللجوء حكايتين: في اللجوء الأول كن، وفي اللجوء
الثاني فعلنا.
في
اللجوء الأول عشنا. وفي اللجوء الثاني متنا. في اللجوء الأول كان الوجع بالأبيض
والأسود، وفي اللجوء الثاني صار الوجع بالألوان. في اللجوء الأول حملنا مفاتيح
العودة. وفي اللجوء الثاني استعرنا المفاتيح من اللجوء الأول، فلا مفاتيح للعودة
إلا مفاتيح بيوت فلسطين. وفي اللجوء الثاني كانت أيضاً تراجيديا اللجوء الأول
حاضرة، فمن شهد منا لجوءه شهدها. ومن شهد اللجوءين شهدها مرتين، وسمعها مرتين. وفي
كل مرة، كانت الحكاية ذاتها تروى: «كله منك! احبلي يا فاطمة، خلّفي يا فاطمة ...
فلسطين بدها رجال يا فاطمة. وبالآخر بيستشهدوا واحد ورا الثاني دفاعاً عن التنظيم
والأنظمة! يا مصيبتك يا فاطمة»، يقول ناجي. يربّت زوج فاطمة كتفها «خلقت أكتاف
الرجال لحمل البنادق، فإما عظماء فوق الأرض أو عظام في جوفها» يقول غسان، ثم يضم
الزوج إلى حضنه زوجته فاطمة، ويتمتم فيقول محمود «كانت تسمى فلسطين. صارتْ تسمى
فلسطين». يا لبأس هذا الفلسطيني، يسكن قصائده وحكاياته، أينما يحلّ، ولا يسكن
بلاده! لاجئ وأعيد ترتيب صور لجوء أبي في لجوئي، ثمة من يعيد، أيضاً، إنتاج الوجع
الفلسطيني بطريقة النسخ واللصق، يخرجني من أدراج الأرشيف، وينفض عن وجهي غبار
الإهمال، ثم يعيد بثي كخبر عاجل، رغم أني خبر قديم.
هو
لا يريد حتى أن يتعب نفسه بكتابة وجع فلسطيني جديد، فيكررني، ومعه تكررني قوافي
الرثاء والمديح والأغاني. وبين وجعي والقوافي صرت لاجئاً من كلاسيكيات الوجع
العربي، وبضاعة مستهلكة، لا تغوي أحداً سوى الموت. صار الموت زبوني، وصرت للموت
سوقاً لما يشتهي.
لاجئ
ويعيد. بات موت شعب مخيم اليرموك كله خسائر جانبية في الوجع السوري اليومي. جوعه
تفرضه ضرورات المعركة. صلبه على الحدود ضرورة أمنية، وقتله على حافة البحر حفاظاً
على الأمن الوطني، لم تعد أكتاف شبابه للبنادق، باتت موزعة بين حقائب السفر
والتوابيت، وصار موت الفلسطيني بدون معنى أو سبب. حتى فلسطين، باتت تشتهينا أن
نطير مع الحمام، ولا نحط، لا نحن، ولا الحمام. «كانت الأرض تابوتاً كبيراً لنا أو
سجناً، فربما تكون السماء، لنا، وطناً»، تقول فلسطين.
المصدر:
الاخبار