القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الخميس 28 تشرين الثاني 2024

ألوان الحالة الفلسطينية في أوروبا وتفاعلاتها

ألوان الحالة الفلسطينية في أوروبا وتفاعلاتها


بقلم: حسام شاكر

يمثل الشتات الفلسطيني في أوروبا جزءاً من الشعب الفلسطيني ككل، وهي حقيقة تتضح أيضاً لدى رصد نموّ التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية في صفوفه أو اضمحلالها. ولا ينفي ذلك الخصوصية النسبية التي اختصّ بها فلسطينيو أوروبا في ما يتعلّق بنموّ الاتجاهات والتيّارات عبر المراحل.

فقد كان الوجود الفلسطيني في أوروبا، طلابياً في معظمه خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، بما جعله شاباً ونخبوياً إلى حدّ ما، فغلبت عليه آنذاك التجاذبات الفكرية التي سادت في تلك المرحلة. برزت آنذاك الاتجاهات القومية العربية، كحركة القوميين العرب والناصريين والبعثيين، والاتجاهات الشيوعية واليسارية خاصة في بلدان الكتلة الشرقية حتى انهيار الستار الحديدي. كما برز اتجاه الاقتصار على النطاق الوطني الفلسطيني، الذي تقوده حركة "فتح" دون لون فكري محدّد.

كان "اتحاد الطلبة العرب" الذي تشكّل في بعض الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وألمانيا والنمسا على سبيل المثال، بوتقة للتيّارات القومية العربية، وقد تمحور نشاطها أساساً حول قضية فلسطين. وإلى جانب ذلك؛ لم يغب الاتجاه الإسلامي ممثّلاً أساساً بجماعة الإخوان المسلمين، وبدرجة أقلّ بحزب التحرير. وقد نشط الإسلاميّون الفلسطينيون في أطر اتحادات الطلبة المسلمين، التي كانت فاعلة في عدد من البلدان الأوروبية، وبالأخصّ منها بريطانيا وإيرلندا والنمسا وإيطاليا.

أمّا اتجاه الاقتصار على النطاق الوطني الفلسطيني، فقد عبّر عن ذاته في شكله الجديد في نهاية الستينيات، من خلال أطر مثل "الاتحاد العام لطلبة فلسطين"، الذي يتبع منظمة التحرير الفلسطينية، والذي سيطرت عليه حركة "فتح" بشكل ثابت.

ومع نهاية السبعينيات؛ انحسر العمل الطلابي القومي واليساري العربي، ومعه الفلسطيني كذلك، في الساحات الأوروبية، بينما تقدّم نموذج منظمة التحرير والاتحاد العام لطلبة فلسطين.

ثمّ أخذ الإسلاميّون الفلسطينيون يبرزون تدريجياً، مثلاً في بريطانيا، حيث كان "الاتحاد الإسلامي لطلبة فلسطين" ينشط وعنه كانت تصدر مجلة "فلسطين المسلمة" بدءاً من النصف الثاني من الثمانينيات علاوة على الحضور في أطر أخرى مثل "جمعية الطلبة المسلمين". ومع ذلك؛ فقد كان الاتجاه الإسلامي الفلسطيني مؤطّراً أساساً في تشكيلات طلابية ومجتمعية إسلامية عامّة وجامعة، تضع فلسطين في صدارة اهتماماتها، وهو ما ظلّ عليه الحال حتى أواسط التسعينيات تقريباً.

لقد تضاءل حضور منظمة التحرير الفلسطينية في أوساط الشتات الفلسطيني في أوروبا، بدءاً من أواسط التسعينيات، حتى بلغ الاضمحلال حدّ الغياب في بعض البلدان الأوروبية. وقد ارتبط ذلك بتطوّرات محدّدة تمثلت بنشوء السلطة الفلسطينية وبروزها على حساب منظمة التحرير، رغم أنّ السلطة من الناحية النظرية تتبع المنظمة وليس العكس. ورافق ذلك انتقال مركز الثقل في القيادة والقرار والمؤسسات الفلسطينية الرسمية من الخارج إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو انتقال في الاهتمامات علاوة على أنه انتقال "فيزيائي". وقد أصبح الخارج الفلسطيني في تلك المرحلة في هامش الأحداث ومعزولاً عن القرار الفلسطيني، وعانت منظمة التحرير وهيئاتها (كالمجلس الوطني) ومؤسساتها القطاعية والنقابية المتعددة من الضمور، إلى حدّ الشلل التام أو الغياب الكلِّي.

ثمّ إنّ التحوّل في النهج السياسي من "الثورة" و"الكفاح المسلّح" إلى "عملية السلام" و"التسوية السياسية"؛ كان له أثره الحاسم في شعبية منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية. وقد أحدث هذا التحوّل حالة من الصدمة المعنوية في بعض الأوساط الفلسطينية في أوروبا وارتباكاً وحيرة في أوساط أخرى، والمؤكّد أنه ترك أثره عبر اتجاه من الانفضاض عن العمل الفلسطيني العام في بعض أوساط الشتات الفلسطيني في القارّة وسط شعور بغياب المرجعية أو بافتقاد الوجهة.

لقد تحوّلت القيادة الفلسطينية مع تلك الانعطافة التاريخية إلى "رسمية فلسطينية"، عبر السلطة وحكوماتها وسفاراتها أو ممثلياتها، وتوجّه الخطاب الرسمي الفلسطيني في أوروبا من التحرّك لكسب التأييد لصالح الحقوق الفلسطينية ومنافحة الاحتلال إلى خطاب تأييد السلام وبناء الثقة وكسب المانحين. وقد انعكس ذلك على كفاءة هذا الخطاب في الحشد والتعبئة وكسب الجماهير الفلسطينية في أوروبا، خاصة وأنّ السفارات أو البعثات الفلسطينية بدت منغمسة في البروتوكول الدبلوماسي ومعزولة عن التفاعل الحيّ مع الجمهور الفلسطيني أو قطاعات المتضامنين الأوروبيين مع القضية الفلسطينية.

لا يغيب عن الأنظار في هذا السياق أنّ الشتات الفلسطيني في أوروبا اتسم بقدرة أوفر على الاستقلالية عن الرسمية الفلسطينية بالمقارنة مع بعض مواقع الانتشار الفلسطيني الأخرى. فقد تميّزت تجربة منظمة التحرير الفلسطينية بالتشغيل الواسع نسبياً في صفوف أطرها ومؤسساتها وفصائلها، فنشأت حالة من الارتباط أو الاعتمادية على المنظمة عرفتها بعض الساحات الفلسطينية، وهو ما أخذ شكلاً أكثر حدّة في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد سنة 1993 من خلال تجربة السلطة الفلسطينية. وقد كانت الساحة اللبنانية وبعض مناطق الانتشار الفلسطيني الأخرى في الثمانينيات وبدايات التسعينيات، مثل تونس والجزائر واليمن، أمثلة واضحة على اتجاه التشغيل والاعتمادية، وإن لم تتوسّع هذه الحالة في ساحات أخرى؛ مثل الأردن ودول الخليج. لكنّ الشتات الفلسطيني في أوروبا، تشكّل في نمطه الجديد في المرحلة ما بعد الطلابية، أي منذ الثمانينيات، بصفة متحرِّرة من اتجاه التشغيل والاعتمادية هذا. بل إنّ العمل الفلسطيني العام قد أنشأ جمعيات "مانحة"، تجمع التبرّعات من عموم الجمهور وتموِّل بها برامج خيرية وإنمائية في داخل فلسطين وبعض مخيمات اللجوء، خاصّة في لبنان. ولا شكّ أنّ هذه السمة من الاستقلالية، سواء في التشغيل أم التمويل، قد أتاحت للشتات الفلسطيني في أوروبا هامشاً أوسع في بلورة خياراته التي أخذت تتمايز بوضوح عن خيارات الرسمية الفلسطينية.

تزامناً مع هذا التحوّل برز الاتجاه الإسلامي في الساحة الفلسطينية في مواقع الشتات، بما في ذلك أوروبا، عبر طيف من التجمّعات والأطر والمؤسسات، تمكّن من تنظيم فعاليات دورية أو غير دورية، اتسمت عموماً بالاستمرارية والقدرة على الحشد واستيعاب أجيال جديدة في العديد من البلدان الأوروبية.

لكنّ التطوّر لم يتوقف عند هذا الحدّ؛ فقد برزت أطر ونشاطات من نوع جديد لخدمة قضية فلسطين في أوروبا، انبثقت من داخل المجتمع المدني الأوروبي، بمشاركات فلسطينية جزئية. وقد نجحت هذه الأطر والجهود في كسب وجوه من الحياة العامّة والسياسية الأوروبية إلى خانة الحقوق الفلسطينية، وتمكّنت من صناعة أحداث مميّزة، كسفن كسر حصار غزة، وأسطول الحرية، وبعثات المتضامنين إلى القرى الفلسطينية، وحملات المقاطعة الأكاديمية للجامعات الإسرائيلية، وحركة المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات وغير ذلك. ومن اللافت للانتباه أنّ هذه الأطر تعمل بشكل مستقلّ عن أيّ تنسيق يُذكر مع المؤسسات الفلسطينية الرسمية، وإن كانت تقوم بالتعاون والتشبيك مع المؤسسات غير الحكومية والأطر الشعبية الفلسطينية كما يبدو جلياً في أطر كسر الحصار مثلاً كالحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة والتحالف الدولي لكسر الحصار وغيرها.

ومع صعود جيل الفلسطينيين الناشئين في أوروبا إلى المشهد، يتعزز الانطباع بأنّ الشتات الفلسطيني في هذه القارة يحظى بمزايا أوفر نسبياً في ما يتعلّق ببعض صور العمل العام، بالمقارنة مع ساحات الانتشار الفلسطيني الأخرى في الخارج. ويتأتّي ذلك أساساً عبر استفادة فلسطينيي أوروبا من الخيارات المُيسَّرة للتشكّل والتنظيم في المجتمع المدني، بما في ذلك إقامة الجمعيات والاتحادات والمؤسسات، وتنظيم الفعاليات والنشاطات، وكذلك العمل الإعلامي والجهود الثقافية والتواصل السياسي.

لقد اتجه العمل العام الفلسطيني مع مطلع القرن الحادي والعشرين من الاقتصار على نطاقات محلية إلى التشبيك القاري. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك؛ "مؤتمر فلسطينيي أوروبا"، وهو التجربة الأبرز خارج فلسطين التي تجمع الجماهير الفلسطينية في فعالية دورية. وكانت هذه التجربة قد انطلقت في لندن في عام 2003 بمبادرة من مركز العودة الفلسطيني، وتواصلت سنوياً بانتظام محققة نجاحاً وإقبالاً كبيريْن وصولاً إلى الانعقاد الثالث عشر في برلين 2015. وقد تم في غضون ذلك عقد مؤتمرات وملتقيات أخرى عامة وتخصصية، وهو اتجاه يمضي إلى تصاعد بما يتماشى مع تعزيز عملية الوحدة والتكامل في أوروبا إجمالاً.

لكنّ تجارب العمل العام الفلسطينية واجهت وفرة من الصعوبات والعراقيل والحملات المضادة. فعلاوة على المعضلات الذاتية في الساحة الفلسطينية ومنها أزمة الانقسام في البيت السياسي الفلسطيني، استهدفت حملات التحريض والتضييق والتشويه مؤسسات وتجمعات فلسطينية متعددة، خاصة المؤسسات الخيريّة وبعض المؤسسات العامّة أو التخصصية. ويمكن الإشارة إلى مراحل متعددة في هذا الجانب؛ منها ما جرى في سبعينيات القرن العشرين، عندما حظرت ألمانيا الاتحادية (الغربية) نشاطات الاتحادات القطاعية الفلسطينية التابعة لمنظمة التحرير في أعقاب عملية احتجاز الرياضيين الإسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية في مونيخ (1972)، بينما استهدفت مرحلة لاحقة مؤسّسات فلسطينية ذات خلفية إسلامية بدءاً من أواخر التسعينيات، وبالأخصّ منها الجمعيات الخيرية. كما باشرت جهات إسرائيلية رسمية أو مراكز مرتبطة باللوبي الإسرائيلي شنّ حملات تحريض وتصنيف بحق مؤسسات فلسطينية أو مناهضة للاحتلال ونشر قوائم تشهير متعددة. لكنّ مفعول الحملات المضادة بات أضعف من أي وقت مضى، مع نمو أطر العمل الفلسطينية وتوسعها وتطوّر خطابها وأدائها، علاوة على تطور مناهضة الاحتلال الإسرائيلي في المجتمعات الأوروبية.

لا يمكن تنميط الألوان والتيارات في المشهد الفلسطيني الممتدّ عبر قارة تضم قرابة خمسين دولة، لكنّ الواضح أنّ الشتات الفلسطيني في أوروبا قد تحوّل من الطابع الطلابي في بدايات تشكّله خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، إلى ملمح تجمّعات اللاجئين لأسباب سياسية وإنسانية، ومن ثمّ إلى طابع الوجود المستقرّ متعدِّد الأجيال والذي يشتمل على خبرات واختصاصات متعددة.

قد يذكر بعضهم اليوم أنّ الهجمة على فلسطين قد بدأت بمؤتمرات وفعاليات وجهود في القارة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، لكن أوروبا تشهد اليوم حشداً لجهود متعددة من أجل حقوق الشعب الفلسطيني السليبة وتحقيق العدالة الغائبة لقضيته.

المصدر: العربي 21