أم ركان.. مرثية العائدين
طارق حمّود
على ضفاف بحيرة المزيريب جنوب سورية ألقت بقايا عشقها الطافي على زرقة
البحيرة في طبريا، وفي التربة الحمراء زرعت أولى غراس التحدي، وعبر سهول حوران
ووادي الرقاد قطفت من كل نسمةٍ غبار الإقحوان القادم من الغرب حاملاً معه عبير عيلبون
وصمخ وحطين متشبعاً ببرودة الماء العذب هناك.. في ذاكرتها الصلبة التي تشبه ملامح
الوجه الموشح بسمرة قرون الخروبة المنتصبة على ماتبقى من حجارة مغار حزور، وثبات
الجميزة في حواكير "الخرانبة" الممتدة، في تلك الذاكرة التصقت طبريا
بدرعا، والمغار بالمزيريب، فكان المخيم وطناً على طريق الوطن.
كانت البحيرة هي المقاربة الحاضرة في وعي ثمانية آلاف من اللاجئين
الفلسطينيين في تجمع المزيريب، المقاربة التي تربطهم بكل ما ينعش ضميرهم الحي
بفلسطين وطبريا التي جاؤوا منها عام 1948، حتى في الهزل كانت البحيرة حديثاً
للكذبة البيضاء التي رواها "أبو عماد" وهو يخبر الناس أنه غطس في بحيرة
المزيريب فأخرج رأسه في ماء بحيرة طبريا. كانت المزيريب ككل مكان يجتمع فيه
اللاجئون الفلسطينيون، مخيماً وتجمعاً ووطناً، ومجتمعاً له كينونته، وخصوصيته التي
رسمتها عشائر شمال فلسطين التي خرجت من سهول حطين والناصرة ودير حنا وعيلبون ومغار
حزور وصمخ والدوارة وغوير أبو شوشة، ومن كل العشق الذي خلّفوه على ضفاف الذكرى
هناك، كانت المواسى والصبيح والقديرية والخرانبة واللهيب والغوارنة والتلاوية
والسياد والسمكية والسبارجة والسمنية وغيرهم من عشائر وعائلات بحثتت عن تربةٍ بلون
الدم، ورائحة الشهادة، فكانت المزيريب تلك البقعة النادرة التي يصعب أن تتكرر إلا
في ذلك المكان الذي غادروه على وعي الإصرار بالعودة إليه.
في ذلك المجتمع الذكوري، كانت تلك المرأة اللاجئة التي أنجبت العشرة.. أم
ركان أكثر من أم ربت أبناءها، هي إمرأة لكنها أكثر من رجل، ومربية لكنها أرحب من
مدرسة، غير متعلمة لكنها أعلم من مدير، لم تعرفها الجامعات، لكنها عنوان الشهادة..
هي معادلات متناقضة، لكنها الأكثر واقعية في حياة المرأة التي صنعت أحلام عائلتها،
ولم تبقها حبيسة الأمنيات، ونقلتهم من نظرية الحلم إلى واقعية التطبيق والتحقيق.
في تجاعيد الوجه ترى نهر الأردن الذي مثّل حياة أعرق الحضارات على جنباته، وحدود
الوطن الفلسطيني يرتسم من العين إلى العين، وفي عصبة رأسها إصرار يروي حكايا
التحدي، ويعطي إشارة البدء بالحياة رغماً عن الحياة.
أم الرجال السبعة، وشقيقة الآلاف الثمانية، وشهيدة الملايين السبعة، أم
ركان هي انعكاس الألم والأمل، واختزال الوطن بالبشر، وحياة اللجوء كيف تكون، وإلى
أي الأوطان تنتهي، أم ركان تلك الخيزرانة القمحية التي نبتت على الصخر، فعبّدت به
دروب الشوك، هي السفينة التي حملت المخيم من حالة الانتظار إلى الانطلاق المفتوح
في فضاء الأعمال والمبادرة حيث لا سقف للطموح. ليست مجرد إمرأة، هي عنوانٌ يعكس
تراجيديا اللجوء ويروي بانوراما حياتهم، في كل بيت كان هناك أم ركان، التي لم تطرق
جدران الخزان، لأن صمتها كان مسموعاً، فلم تترك في حياتها مجالاً للكلام، ولا
الصراخ، حتى في أكثر مراحل المحنة، وفي آخر مراحل عمرها المكتوب كانت تصنع تحدياً
حقيقياً، يقاوم براميل الحقد المتفجرة، ليستمر حلم الحياة الذي أرادته وصنعته رغم
أنف القتلة..
أم ركان استشهدت بتاريخ 18 فبراير شباط 2014 بعد أن ودعت
أبناءها الواحد تلو الآخر، ليرسموا حلماً جديداً في منافي الأرض البعيدة، غير ذاك
الذي قتله الحقد الأسود الذي لاحق آمالهم من غوير أبو شوشة حتى المزيريب، فتفرقوا
عبر القارات ليرسموا مع أشقائهم من فلسطينيي سورية وطناً بلا حدود، وخياماً بلا
أوتاد، تتجهز لرحيل جديد لن يكون إلا باتجاه وطنٍ يباع على مزاد المساومات اليوم،
المساومات التي أفشلتها "أم ركان" طوال عقود العبث، ورحلت بعد أن خلّفت
جيل العائدين.
المصدر: السبيل