القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

أمن واحد... لا أمنان للمخيمات الفلسطينية

أمن واحد... لا أمنان للمخيمات الفلسطينية

الياس فرحات

يُحكى انه في العام 1948 عندما وصل نازحون فلسطينيون الى لبنان على دفعات، فكر بعض السياسيين بإنشاء مخيمات لهم على مقربة من الحدود اللبنانية الفلسطينية في المنطقة الممتدة بين صور ومرجعيون، ويبقون بذلك على مقربة من فلسطين، وتتركز أفكارهم وجهودهم على العودة الى ديارهم. لكن القرار السياسي اللبناني قضى بتوزيعهم على جميع المناطق اللبنانية، فانتشرت المخيمات في جميع المحافظات. في الجنوب، وضع الفلسطينيون في سبعة مخيمات أكبرها عين الحلوة قرب صيدا والمية ومية في شرق صيدا والبص والرشيدية والبرج الشمالي وجل البحر والبرغلية في صور. في جبل لبنان توزع الفلسطينيون على مخيمات برج البراجنة وتل الزعتر وجسر الباشا وضبية، وفي بيروت في مخيمي صبرا وشاتيلا، وفي الشمال في مخيمي البداوي ونهر البارد وفي البقاع في مخيم الجليل. هدف القرار السياسي اللبناني الى توزيع هموم اللاجئين على المناطق كافة ومنع الفلسطينيين من تشكيل قوة كبيرة في منطقة معينة قد تقلب موازين القوى الهشة أساسا بين الفئات اللبنانية. فرض على الفلسطينيين تدابير أمنية وإدارية شديدة لجهة البناء والعمل والنشاط السياسي. وسقطت بعد حرب 1967، فانفلت الوضع الأمني في المخيمات وبدأ الحديث عن لجوء مطلوبين اليها وعدم انصياعها للقضاء اللبناني.

في العام 1969 وبعد اشتباكات متعددة بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية، توصل الجانبان اللبناني والفلسطيني بوساطة مصرية الى توقيع اتفاق القاهرة، الذي ينظم العلاقات العسكرية بين السلطة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية في المخيمات وأماكن انتشار المقاتلين الفلسطينيين في الجنوب الشرقي (العرقوب). وأنشئ في أركان الجيش اللبناني مكتب ارتباط لشؤون الفلسطينيين العسكرية. ومن مظاهر الثقة والتعاون ان السيارات العسكرية الفلسطينية كانت تملأ الوقود من محطات الجيش.

بدلا من ان يوفر اتفاق القاهرة الحل لمسألة الوجود الفلسطيني المسلح ويقوننها، اذا به يضيف خلافا كبيرا الى خلافات اللبنانيين ويطغى عليها ويسيطر على الحياة السياسية لأكثر من عقدين من الزمن. عارض قسم من اللبنانيين الاتفاق وحجته عدم التهاون في سيادة الدولة على أراضيها ومنها المخيمات، فيما صمت القسم الآخر ولم يدل بمواقف مؤيدة للاتفاق بل كانت المواقف عامة تؤيد كفاح الشعب الفلسطيني وحفظ البندقية الفلسطينية. بين هذين الموقفين تخلخل موقف الدولة اللبنانية، فلم تنفذ «الاتفاق» مسايرة لفريق لم يعترف به، وصمتت عن تجاوزات الفلسطينيين مسايرة للفريق الآخر، فوصلت هذه الدولة الى وضع انفلش فيه الوجود الفلسطيني المسلح الى خارج المخيمات وانتشر الفلسطينيون في مناطق عديدة بعيدة عن المخيمات، ما أضاف تعقيدات كبيرة أمام أي تسوية معهم. في حرب السنتين التي كان الوجود الفلسطيني من أبرز عناوينها، ظن فريق لبناني أن إزالة المخيمات من المنطقة المعروفة بالشرقية أي تل الزعتر وجسر الباشا يحل مشكلة الوجود الفلسطيني المسلح، لكنه بقي على مسافة أقل من 5 كم من هذه المخيمات في المنطقة المعروفة بالغربية. لم يتبلور لدى عامة اللبنانيين ولا عند قياداتهم ان الامن في لبنان واحد وان تجزئته لا تصنع أمناً، وانطبق ذلك على الملف الامني الفلسطيني. عانت معالجة مسألة الوجود الفلسطيني المسلح من عدم الثقة بين مختلف فئات اللبنانيين وبينهم وبين الفلسطينيين، واستمرت الفوضى - المأساة وتفاقمت الاوضاع الانسانية بعد خروج منظمة التحرير من لبنان العام 1982 وارتكاب مجزرة في صبرا وشاتيلا. وخلت فترة الثمانينيات من أي فرصة لبحث تنظيم الوجود الفلسطيني لان المشكلة انتقلت الى وجود ميليشيات لبنانية كانت في الواجهة.

بعد اتفاق الطائف وتحديدا بعد 13 تشرين الاول 1990، دخل لبنان مرحلة استقرار سياسي في ظل النفوذ السوري. في حزيران العام 1991 قررت الدولة اللبنانية إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح خارج المخيمات في شرق صيدا، وحاولت تسوية الموضوع بالمفاوضة، لكن الصدام المسلح وقع وسيطر الجيش على جميع المراكز الفلسطينية خارج المخيمات في شرقي صيدا في الجنوب وسلم الفلسطينيون أسلحتهم الثقيلة للجيش.

بقيت مراكز خارج المخيمات في الناعمة في جبل لبنان ولوسي وقوسايا في البقاع تتمركز فيها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة» المتحالفة مع سوريا. عرف لبنان خلال الحقبة من عام 1990 الى 2005 نوعا من الاستقرار في ظل نفوذ سوري واضح، واستغل اللبنانيون هذا الاستقرار لإعادة بناء الدولة، لكن الوجود الفلسطيني بقي معلقا من دون أية مقاربة أمنية سوى قرار مجلس الوزراء القاضي باستملاك قطعة ارض في القريعة في اقليم الخروب أشيع انها لإقامة مخيم للفلسطينيين ومحاولة استملاك قطعة اخرى في بلدة البيسرية في الزهراني. ترافق ذلك مع مساع أوروبية وكندية لم يكتب لها النجاح من أجل توطين الفلسطينيين في بلدان عديدة، منها لبنان. وقد حدث ذلك في بيئة دولية أوحت أن «اتفاقات اوسلو» سوف تنفذ وأن السلام الموعود آت.

في ايار 2007 انفجر الوضع في مخيم نهر البارد ونشب قتال عنيف بين الجيش اللبناني و«فتح الاسلام» دام أكثر من ثلاثة اشهر وتسبب بمقتل المئات وتدمير المخيم، وكشف عجز الدولة عن استباق الحدث الامني بسبب غياب آليات عمل ومؤسسات في الدولة لمعالجة اوضاع الفلسطينيين.

في واقع المخيمات لا نجد مؤسسة رسمية لبنانية تتعامل مع الفلسطينيين بالكامل، اذ تتولى المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية إصدار إخراجات القيد وبطاقات الهوية للاجئين المسجلين في لبنان، بالاضافة الى تسجيل الوقوعات من زواج وولادة ووفاة، فيما تتولى المديرية العامة للأمن العام إصدار وثائق السفر. أما على الصعيد الامني فتتولى قوى الجيش اللبناني الانتشار في محيط المخيمات وعلى مداخلها ومتابعة الوضع الامني داخل المخيمات من دون الدخول اليها. في داخل المخيمات يتولى الكفاح الفلسطيني المسلح عمل الشرطة وهو ما تبقى من اتفاق القاهرة. أما بعد إنشاء السلطة الفلسطينية ودولة فلسطين وافتتاح سفارة فلسطينية في لبنان، فقد ظهرت قوات الامن الوطني التابعة للسلطة الفلسطينية في بعض المخيمات من دون اتفاق رسمي مع السلطة الفلسطينية. عندما تولى الرئيس فؤاد السنيورة رئاسة الحكومة كلف السفير السابق خليل مكاوي رئاسة لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني. تراجع دور اللجنة ونسيها اللبنانيون والفلسطينيون. أعلنت حكومة الرئيس سعد الحريري عن تكليف الوزير وائل ابو فاعور متابعة شؤون الفلسطينيين، من دون ان تنشئ مؤسسة لمتابعة العلاقات اللبنانية الفلسطينية.

اذاً في الوقت الذي تستحوذ المسألة الفلسطينية في لبنان على اهتمام اللبنانيين والقوى الاقليمية والدولية، وفي الوقت الذي يهجس فيه اللبنانيون، وخصوصا القريبين من المخيمات الفلسطينية من تدهور الاوضاع الامنية، وفي الوقت الذي تحدثت أنباء صحافية عن مكوث السيارات التي تم تفجيرها في مناطق الضاحية الجنوبية عدة أيام في أحد المخيمات قبل انطلاق الانتحاريين منها، وبعضهم من فلسطينيي لبنان، لتفجيرها بين المدنيين، في هذا الوقت يكتشف اللبنانيون أن دولتهم لا تمتلك رؤية موضوعية لإدارة الملف الفلسطيني. تجري المقاربة الرسمية هذا الملف إفراديا وتحقق أحيانا نجاحات لكن الفشل لا يتبناه أحد، خصوصا اذا كان بحجم مأساة نهر البارد. لا يزال الجدال حول لجوء مطلوبين الى المخيمات يظهر بين وقت وآخر وسط حالة ضبابية من الاتهام والإنكار.

بما ان لبنان أقام علاقة ديبلوماسية مع السلطة الفلسطينية، وبما ان هذه السلطة تشكل أكبر مرجعية للفلسطينيين في لبنان وبما ان الفصائل الفلسطينية العشرة و«حماس» و«الجهاد الاسلامي» لم تتخذ مواقف سلبية من السفارة الفلسطينية، وخصوصا في موضوع تنظيم المخيمات وأمنها فقد آن الأوان لمقاربة الملف الفلسطيني ووضع حل للمشكلة الامنية وتحدد الصلاحيات والمسؤوليات.

نعرض مقاربة ترتكز على فكرتين من أجل الخروج من هذا الوضع الضاغط.

الاولى: توحيد المرجعية الامنية اللبنانية للفلسطينيين وذلك بإنشاء هيئة شؤون الفلسطينيين في وزارة الدفاع الوطني ـ قيادة الجيش تتولى ادارة العمل الامني المتعلق بالمخيمات الفلسطينية والفلسطينيين المقيمين على الاراضي اللبنانية. تضم هذه الهيئة ضباطا في أقسام متخصصة في شتى المجالات المتعلقة بالفلسطينيين. تتابع هذه الهيئة العمل الامني والعسكري مع قوى الجيش المنتشرة عملانيا في محيط المخيمات بالتنسيق مع أركان الجيش وفقا لقرار القيادة. تؤمن هذه الهيئة الارتباط مع المديرية العامة للامن العام لجهة حركة دخول وخروج الفلسطينيين الى لبنان ومنه وشؤون اخرى، والارتباط ايضا مع المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين.

تتيح هذه الهيئة إرساء وضع مؤسساتي دائم ومستمر لإدارة الفلسطينيين وتوحيد الجهود الامنية والعسكرية وتفعيلها لحفظ أمن المخيمات ومحيطها.

الثانية: الاستفادة من أجواء الثقة بين السلطة الفلسطينية ومختلف الفئات اللبنانية واتخاذ خطوة لبنانية جريئة تخرج المخيمات ومحيطها من الحالة الضبابية التي تعيشها وتشريع العدد المطلوب من قوات الامن الوطني، على ان تتولى حفظ الامن رسميا داخل المخيمات وتتعاون مع السلطة الفلسطينية للتخلي عن الامر الواقع الراهن. يشمل ذلك إرساء علاقة تعاون بين قوات الامن الوطني الفلسطيني والجيش اللبناني والقوى الامنية، تتضمن عدد الوحدات وتسليحها وانتشارها ومهامها والتنسيق معها في كل ما يهدد أمن المخيمات وجوارها.

تحدد وفقا لاتفاقية لبنانية فلسطينية مهام قوات الامن الوطني وعديدها وعلاقاتها وسلوكها، وتعقد معها اتفاقية وضع القوات state of the forces agreement SOFA وهي مثل الاتفاقيات التي تعقدها جيوش في العالم مع قوات غير وطنية تعمل على أرضها. وأهم تفصيل في هذه الاتفاقية سيكون اعمال الضابطة العدلية اللبنانية داخل المخيمات من استقصاء الجرائم وإجراء التحقيقات وتنفيذ جميع الاعمال القضائية ودور قوات الامن الوطني في ذلك.

اذا اعتبر أحد ان هذا هو اتفاق قاهرة جديد أو اتفاق يحد من سيادة لبنان، فلا بأس أن نحيله على الوضع الراهن حيث تنتشر في المخيمات فوضى السلاح والامن ولجوء المطلوبين، ويرتفع خطر انفجار الاوضاع يوما بعد آخر من دون معالجة جدية، بالاضافة ان الجهات المرتبطة بالعدو الاسرائيلي والمنظمات الارهابية تتسلل من بين الحالات الضبابية المختلفة لتوجه ضربتها في جو يتعذر فيه تحديد المسؤولية في التعامل مع المخيمات، فهل هذه سيادة؟

حتى لا نندم قريبا على ترك الشأن الامني الفلسطيني عالقا، لا بد من التعامل بجدية مع هذا التهديد المرتقب والعمل على وضع حلول استراتيجية دائمة وعدم الاكتفاء بإدارة الازمات، والفكرتان المطروحتان أعلاه هما مادة للعمل والنقاش من أجل التوصل الى حل جذري لهذه المسألة ـ المأساة.

المصدر: السفير