القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

أنا فلسطيني إذاً أنا أحلم

أنا فلسطيني إذاً أنا أحلم

لمياء الساحلي - السفير
17/05/2011

لم تكن الحماسة فقط ما دفع بعض الشباب الفلسطيني إلى الاقتراب من الشريط الشائك في مارون الراس ورمي الحجارة على الجنود الإسرائيليين، ولا قربهم الشديد من أرضهم التي حرموا منها فحسب، بل استغراقهم في حلم يقظة بدأوه منذ أن استقلوا الحافلات من مخيماتهم وصولاً إلى السياج الحدودي. حلم حوّل ذكرى النكبة هذا العام، بفعل الكثير من المؤثرات بدءاً باسم المسيرة، إلى ما يشبه العودة الحقيقية إلى فلسطين بكل ما يحمل ذلك من احتمال سقوط شهداء.

ماذا كنا ننتظر من شباب آتين من مخيمات اللجوء في لبنان أن يفعلوا في موسم الثورات، حين تطالعهم لافتة عليها «إلى فلسطين» كل بضعة كيلومترات وهم في طريقهم إلى الجنوب؟ كانوا بالتأكيد سيحلمون ويستغرقون في الخيال أكثر، كلما تناقص عدد الكيلومترات على اللافتات، إلى أن يجدوا أنفسهم عند الشريط الشائك يغصّون بشبر أرض يفصلهم عن بلادهم السليبة، فيتناولون حجراً ويبادلونه برصاصة.

وماذا كنّا ننتظر ممن لم يسمح له ذووه أو أصدقاؤه بالنزول إلى الشريط؟ كان من الطبيعي أن يشعر بخيبة أمل كتلك التي تنتابنا إذا أفقنا من حلم جميل، ويصاب بنوبة هستيرية وينتهي به الأمر مغمياً عليه من مرارة العجز. تماماً كذلك الشاب الذي كان جسده ينتفض بين أيدي رفاقه الذين حاولوا ثنيه عن النزول إلى الحدود وهو يصرخ ملء فيه كلاماً غير مفهوم قبل أن ينهار وينقله المسعفون بعيداً.

في «مسيرة العودة» من لبنان الأحد الماضي، استقلّ الفلسطينيون حافلات كتبت عليها أسماء بلداتهم التي سيعودون إليها: رفح، معلول، صفد، الصفّورية، غزة.. حذفوا أسماء مخيمات اللجوء، وتركوا وراءهم رطوبة طرقها الضيقة، وحملوا ما بقي في قلوبهم من ألوان وجاؤوا بأمل ربّوه مع الصدأ الذي علا مفاتيح بيوتهم الأولى. بعضهم ارتدى الزيّ التقليدي ليكون أكيداً من عبور الحدود من دون متاعب، وجميعهم حملوا علم فلسطين كبطاقة هوية لم يحصلوا يوماً عليها، وهي أيضاً ضرورية عند الحدود.

لم يجلبوا أية أمتعة، ليس لأنهم لم يصدقوا أنهم عائدون، بل لأنهم يريدون أن يبدأوا حياة جديدة في بلادهم من دون أن يستنفدوا شمس الصيف في تجفيف ملابس رطبة. حلموا كثيراً في طريق «العودة» وهم يتنشقون هواء بلاد لن تكون يوماً بلادهم، أن تكمل الحافلات مسيرها إلى داخل فلسطين بعد تدقيق بسيط على الحدود في «الأعلام»، وإذا احتاج الأمر، في المفاتيح.

وجدوا لدى وصولهم إلى حديقة مارون الراس كراسي في انتظارهم، اعتبروا ذلك محطة للاستراحة قبل إكمال «المسيرة». جلسوا هناك، استمعوا إلى النشيدين اللبناني والفلسطيني وخطابات وبعض الأغاني قبل أن يبدأ إطلاق الرصاص. بعضهم تراجع إلى الوراء، قليلون بكوا، ولكن الغالبية بقيت هناك رغم أن بعض الرصاصات كان صوتها العميق يشي بأنها تخترق أجساداً صلبة. واصل آلاف الفلسطينيين على تلّة مارون الراس، رغم الرصاص القاتل، ممارسة أفضل هواياتهم، كأن ليثبتوا لمغتصبي أرضهم أن الاحتلال والقتل والظلم لم تنل بعد من صبرهم، وانضم إليهم المزيد رغم سيارات الإسعاف التي كانت تخترق الحشود. لم يقتل الرصاص حلم يقظة مارسه أولئك الفلسطينيون الذين احتشدوا قبالة بلادهم في مارون الراس، بل استغرقوا في حلم تلطخ بالدم كعادته طوال 63 عاماً.

كان أكيداً أنهم لن يغادروا بسهولة تلك التلة المقابلة لحبيبة جفّت دموعهم بكاء عليها، مهما قتل منهم، بل سيجلسون طويلاً يتخيّلون لقاءهم بها بألف سيناريو ويتصوّرون أنفسهم يقبّلون ترابها الذي سيستحيل وحلاً بفعل دموعهم. بعضهم استغرق في الخيال، وبعضهم واصل الصلاة على صوت أزيز الرصاص. واتكأت عجوز تسعينية على جذع شجرة زيتون أمام منزلها في صفد ترتشف فنجان قهوة بارد نسيته في البيّارة قبل الرحيل الكبير. لن نتوقف عن الحلم، قالت، إن فعلنا لا نكون فلسطينيين، أنا فلسطيني إذاً أنا أحلم.