القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 23 تشرين الثاني 2024

أهل مخيم شاتيلا يكافحون كورونا والجوع.. بلا دولة

أحمد الحاج علي

لم يكن مرض كورونا فرصة رولا ديوان للهروب النفسي المؤقت من عالمها القاسي في مخيم شاتيلا، كما كانت حال كثيرين. كورونا رمى الفقراء في المخيم أبعد مما كانوا يظنون أنهم يمكن أن يصلوا. رولا تركت أبناءها الأربعة في المنزل، أكبرهم 23 عاماً، وجميعهم بلا عمل، وجاءت لتحصل على وجبة غذائية لعائلتها من المطعم الخيري التابع لرابطة مجد الكروم، الذي يقدّم الطعام أسبوعياً لفقراء المخيم.

مرض في كل بيت

طلبت من زوجها المريض أن لا يأتي لنيل حصتهم من الطعام، حتى لا يُصاب بأي عدوى، رغم أنها تعاني من ارتفاع ضغط الدم ومرض في الغدة. الأمراض تضاعف الفقر في المخيم، وهي منتشرة بشكل واسع، وتقول الأونروا في تقرير يعود لعام 2010 إن ثلث الفلسطينيين في لبنان مصاب بأمراض مزمنة، لذلك تبدو خشية البعض من انتشار كورونا مبررة.

في المخيم عشرات الحالات التي ينمو بأجسادها مرض السرطان. ولا يكاد يخلو بيت من مصاب أو أكثر بمرض خطير، حتى لتخال الجسد يحاول تدمير النفس لقرارها حبسه داخل مخيم، أو ربما، كما يقول علماء النفس، إن المرض يأتي كثيراً بعد شعور بالهزيمة، أو العجز، فتحاول النفس من خلال اعتلال الجسد، أن تثبت أنها ليست عاجزة، بل هناك مرض يمنع تحقيق مرادها، وعلى الأرجح هذا ما يخلص إليه زائر مخيم شاتيلا. تأتي رولا إلى مطعم مجد الكروم بنفسها: "كي لا أغلّب المتطوعين"، كما تقول. مجيئها للمطعم يومين كل أسبوع، فيكفيها الطعام لأربعة أيام، وما تبقى من أيام "بدبّرها الله"، تخفي قلقها بابتسامة.

فقر وضحك وعبثية

سكان مخيم شاتيلا الثلاثون ألفاً، والموزعون بالتساوي ما بين فلسطينيين وسوريين ولبنانيين، يبدون منقسمين في مواجهة كورونا. قسم اعتبر أن كورونا لن يكون أثقل من مصائب مرّت. ولا تشغله مخاوف الموت، بعدما عانى قهراً لا يقل وطأة. وصورة المخيم لديه، بفقره ومرضه وبؤسه، أشدّ قسوة من أي وسواس أو مآل. يسخر من كلمة حجر صحي، وقد عانى الحجر مبكراً، ولسنوات، حين كان اسمه حصاراً. وفقد هذا القسم أغلى ما فيه؛ أملَه. تحدّي كورونا، يبعث بنفسه نشوة المنتصر على كل الخائفين، الذين طالما أخافوه. جاء من يساويه بأثرياء الأحياء الراقية، وكل السياسيين الذين منعوا عنه حياة لم يطمح أن تكون أكثر من عادية، جاء شبح الموت. هذا القسم ينزل من دون كمامات ولا معقّمات. يتظاهر بكثرة خلف التوكتوك حين يأتي ليرش موادّ التعقيم، ويطلق النكات والضحكات. يواجه الواقع بعبثية تريحه مسؤولية مواجهته.

ضاعف من ازدراء هذا القسم للواقع، غياب تنسيق فصائلي، وإطار يوحّد الجهود لمواجهة هذا المرض، فيبعث على بعض الطمأنينة. السلاح بدا كما هو من دون ثقافة سياسية، ومن دون مشروع اجتماعي، بل هدفه إخضاع جماهير يُمارس الارتزاق باسمها. لذلك تتكرر عبارة "إلنا الله"، حين تسأل أهل شاتيلا عن مستقبل المخيم، أو أيّ من قضاياه. يبدون وكأنهم يعيشون بخيمة بلا سقف.

جمعية الشفاء

رغم ذلك، هناك قسم آخر يسكن الأحياء نفسها في المخيم. تعامل مع كورونا بطريقة مختلفة. تمرّد بطريقته. واجه كورونا. أسقط عليه غضبه ربما.. من دون أن يُسقط من قلبه حباً تراه بثورته لحماية السكان منذ اليوم الأول لإعلان دخول هذا المرض إلى لبنان. جمعية الشفاء نموذجاً. في تلك الليلة اجتمع حوالى 50 شاباً متطوعاً في مركز الجمعية بالمخيم، من بينهم ممرضون. تقاسموا العمل. لم ينتظروا وصول عبوات التعقيم من المؤسسات الدولية. اشتروها من المتاجر القريبة. رشوا طرقات المخيم. توجهوا إلى المساجد والمراكز الاجتماعية، فعلوا الشيء نفسه. ومنذ اليوم الأول.

وجوههم الفرِحة تدفع السكان للتعاون، وأدبهم الجمّ، "عمّو ممكن أشوف حرارتك لو سمحت"، فيُطلق الحاج طرفة، ثم يقترب برأسه من الفتى العشريني ليقيس درجة الحرارة. ربما ليست كل ملامح وجه كورونا بشعة، هناك بقعة إيجابية تظهر، وهي إعادة بعث روح التطوّع في المخيمات الفلسطينية في لبنان. يقول منسق جمعية الشفاء في المخيم محمد حسنين إنه في اليوم الأول للإعلان عن ظهور كورونا في لبنان، قام الفريق بتوزيع 5000 كمامة على بيوت المخيم، ثم أتبعها بعدة آلاف خلال الأيام التالية. كل يوم تعقيم كامل لطرقات المخيم تنفذه الجمعية، إضافة إلى توزيع عبوات تعقيم على البيوت، وقياس للحرارة عند مداخل المخيم.

يتحدّث حسنين عن تنسيق مع البلديات، وكذلك الصليب الأحمر اللبناني، الذي يسارع إلى التدخل عند الاشتباه بوجود عوارض كورونا على أي مريض في المخيم. كل نتائج الفحص جاءت سلبية، لكن سُجلت إيجابية في التعاون بين الجانبين اللبناني والفلسطيني فيما يخص منع انتشار مرض كورونا في مخيم شاتيلا. بحوزة جمعية الشفاء اليوم سيارتا إسعاف، وهي تقوم بتجهيز ثالثة معدّة لنقل مصابي كورونا، وتدريب فريق متخصص بنقل المرضى وإسعافهم، يقول محمد حسنين، الأخ الأصغر لحسن حسنين الذي قتله الجيش الإسرائيلي عند حدود لبنان الجنوبية نهاية عام 2000.

الجوع والمطعم الخيري

فريق الشفاء، يقوم بتعقيم دائم للمطعم الخيري لرابطة مجد الكروم. ينظّم دخول الناس. يضع مسافة أمان اجتماعية بينهم. يقيس درجات الحرارة. معظم المتوجهين للمطعم هم من السوريين، بينما تُفضل أكثرية الفلسطينيين انتظار الطعام في البيوت. لعلّ السبب يعود إلى أن السوريين اعتادوا الشكّ في أي سلطة قائمة من أن تقوم بمبادرة إيجابية تجاههم، بينما وثق الفلسطينيون بالقائمين على المطعم لطول معايشتهم المشرفين عليه، ومن بينهم مديره يحيى سرّيس، ربّما.

عندما زارت "المدن" المطعم الخيري قبل عامين تقريباً، كان يوزّع حوالى 1000 وجبة غذائية ساخنة على المحتاجين في المخيم وجواره، بما يكفي الحاجة. اليوم يقوم بتوزيع حوالى 4000 وجبة غذائية، لكنها لا تكفي المخيم وحده، بما يعكس حجم التدهور الحاصل. يعمل في المطعم حوالى 15 متطوعاً، يساعدهم آخرون عند الضرورة. يخبر سرّيس عن صعوبة التحويلات منذ بروز كورونا، خصوصاً أن معظم الإدارات معطّلة في البلدان التي كانت تأتي منها التبرّعات. لذلك فإن أكثر المساهمات اليوم هي من متبرّعين محليين، من بينهم عدد لا بأس به من اللبنانيين.

يشدد على أنه لأول مرة هناك من يجوع في المخيم. يدخل شاب مقاطعاً، يخبره أن عائلته سوف تتبرع بتكلفة إطعام فقراء عن روح جدتهم اعتدال حليمة. يشير سرّيس إلى أن ذلك أصبح شائعاً منذ انتشار مرض كورونا. فمعظم تكاليف العزاء صارت تذهب لإطعام الفقراء. دخل رجل يشكو حال عائلة، مدّ يده للسلام على يحيى سرّيس، فأشار الأخير إلى ورقة ملصقة على الباب "من بعيد لو سمحت لا سلام ولا تبويس، هز براسك وابتسم، المحبة بالقلب"، وابتسما.