القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

أيـام في فلسـطين (1).. «وقفـوني عَ الحـدود.. والمعـابر والمطـارات»

أيـام في فلسـطين (1)..

«وقفـوني عَ الحـدود.. والمعـابر والمطـارات»
 

ياسر علي- خاص/ لاجئ نت

بسم الله أبدأ هذه السطور في الجهة المصرية من معبر رفح، في طريق العودة في يوم الأربعاء في 12-12-2012. فقد أخبرني من أثق بهم أننا سنقضي وقتاً طويلاً في هذه المساحة الصغيرة التي تعتبر ساحة الانتظار لنماذج من مآسي وأفراح غزة.

تتركز في هذه المساحة وفود المتضامنين، وعمال ومسافرون وطلاب وغزاويون، لكل واحد وجهة، ولكل وجهٍ هدف، ولكل واحد قصة. وقد يكون لكل اثنين قصة (ومريض ومرافقه، عروس ووكيلها، عامل وكفيله..).

تتأمل الوجوهَ الساهمةَ بانتظار أن ينادى على أسمائها، بعد انتظار ساعات، وتقارن بين الترحيب الذي لقيناه في غزة، والانتظار الذي لقيناه في هذه القاعة. بين النظافة والأناقة في الجهة الفلسطينية، وبين الحرارة والحشرات التي تملأ المكان (حتى المسجد) في الجهة المصرية.. فهو باب الدنيا ومفتاحها إلى التنفس والهواء الطلق بالنسبة إلى غزة، وهو طاقة المتاعب أو ثغرة في جدار صغير إلى المشاكل والتفاصيل، وإلى همّ كبير بالنسبة إلى مصر «أم الدنيا»!

في كل محطة قصة

المشهد الأول: منذ اللحظات الأولى للرحلة، حيث تستلزم رحلة أي فلسطيني بعض «الأكشن»، فرغم أن الفلسطيني فوق الأربعين لا يحتاج لتأشيرة دخول إلى القاهرة، فإن بعض المشاركين في الرحلة؛ ممن هم فوق الأربعين وتحتها، استصدروا تأشيرات تحسباً لأي قرار مفاجئ، فإذا بكبير موظفي الميدل إيست (شركة الطيران اللبنانية)، بعد أن قطع لهم بطاقات مقاعد الطائرة «البوردينغ»، يوقف رحلتهم بسبب ما قال إنها «حاجتهم إلى موافقة أمنية مصرية».. فبدأت المفاوضات والتدخلات من الداخل والخارج، وهو واقف عنيد لا يتزحزح، حتى كاد موعد الطائرة يفوتنا. فبدأت الاتهامات بأنه يفاوض غيرنا لأن الطائرة ممتلئة، ولديه على لائحة الانتظار الكثير من الركاب، ويحاول أن يكسب من صعودهم سعراً أعلى.. وإلا، فما هو تفسير الموافقة الأمنية على تأشيرة لا تصدر أصلاً إلا بموافقة الجهات الأمنية؟!..

لسببٍ ما، كان موقع جلوسي في المقاعد الأخيرة من الطائرة، علماً أنني قطعت «البوردينغ» قبل العديد من رفاق الرحلة. وكان واضحاً وجود العائلات السورية في ذلك المكان، ولأسباب اجتماعية، تم تغيير بعض المقاعد لضمان التصاق العائلات والأطفال ببعضها.. وكان واضحاً على الوجوه والأغراض معالم «الهجرة باتجاه واحد لعائلة كاملة». فضلاً عن سفر مجموعة من الفتيان ممن لا يعرفون شيئاً عن المطارات والسفر، كلهم ذاهبون باتجاه ليبيا عبر مصر..

وكان لافتاً بالنسبة إليّ أن أرى للمرة الأولى بحياتي مضيفة طيران تتصرف كضابط أو شرطي سير، ينظم هذه العائلات.. وجاء حظي مع المضيفة أنها ظنتني ضمن هذه العائلات، فتصرفت بطريقة غير لطيفة (اللطف الذي اعتدناه على مضيفات الميدل إيست)، فلفتُّ نظرها للأمر، من دون أن أخبرها أنني لست ضمن العائلات!! فاستغربت ثم استدركت.. وفي الباص الذي أقلّنا من الطائرة إلى قاعة المطار، سمعت قصصاً من الفتيان المهاجرين عن التظاهرات والاعتقالات والتعذيب في السجون، والهرب من الخدمة العسكرية.. وكشف أحدهم عن زنديه ليرينا أثر الأربطة وأعقاب السجائر في يديه.

المشهد الثاني: وصلنا مطار القاهرة الساعة 11 قبل الظهر، وصلت إلى صف المنتظرين، فوجدت عدداً من رفاق الرحلة يقفون جانباً، فظننت أن جميع أفراد القافلة يذهبون معاً، فالتحقت بهم، فقالوا: قدّم أوراقك مثل غيرك، نحن موقوفون حتى البتّ بجوازاتنا!! فقدمت أوراقي ومررتُ بشكل طبيعي.. ولكننا انتظرنا في المطار ولم نذهب إلى الفندق بسبب تأخر رفاقنا أربع ساعات كاملة (كان على أسمائهم أن تُمرر على أربعة أجهزة أمنية – كما أخبرونا في المطار).. فصلّينا الظهر والعصر في المطار، وشربنا القهوة والتقطنا الصور ونام بعضنا وتغدّى آخرون.. وعندما خرج الجميع التحقنا بالحافلات الكبيرة، وانطلقنا الساعة الثالثة تقريباً، قطعنا الطريق عبر سيناء، ووصلنا حوالى العاشرة إلى معبر رفح، وكان انتظار آخر على المعبر، فالتقينا الوفود الأردنية والبحرانية والليبية وغيرها.. وممن التقيناهم، والد الأسير البطل عبدالله البرغوثي، وعدد من زملاء الصحافة الإعلام في المعبر، الذين أخذوا يتندرون على عدد الزائرين القادمين إلى غزة (امتلأت غزة وفاضت واندلق الناس إلى البحر!!)..

وبعد انتظار أكثر من ساعة نادوا على أسمائنا، ودخلنا إلى الجهة الفلسطينية، فأعطيناهم جوازاتنا، ولم ننتظر.. فمنذ اللحظة الأولى، صعد إلى الحافلة شيخ تحدث أربع دقائق (وهي من نوادر ما رأيت في حياتي، أن يقصر شيخ حديثه على أربع دقائق) فإذا به شيخ ووزير في حكومة غزة هو أحمد الكرد (رئيس بلدية دير البلح السابق، الذي التقيته منذ ثلاث سنوات في جدة حيث أقام عدة أشهر بسبب إقفال المعابر)، ومعه المسؤول في وزارة الداخلية إسلام شهوان. طلبنا منهم أن ننزل من الحافلات بحرقة المستعجلين لملامسة أرض فلسطين، سجدنا في منتصف الليل على أرض المعبر، وكانت الملاحظة الأولى هي كثرة الأشجار والاخضرار في الجهة الفلسطينية، بالمقارنة مع الجهة المصرية للمعبر.. وبقايا لافتات الترحيب بالضيوف وبرئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل.

المشهد الثالث: في طريق عودتنا من فلسطين إلى لجوئنا مرة أخرى (اللجوء المستمر منذ 64 سنة تخرقه هذه الرحلة، ليستكمل عدّاد اللجوء أيامه)، في الجهة الفلسطينية من معبر رفح، المقاعد المرتبة والأرض النظيفة، والاخضرار المحيط بالمكان، جلسنا في الكافتيريا لحين الانتهاء من تختيم جوازاتنا، وعندما أخذنا الجوازات تجولنا في معرض عن الحرب والحصار، ودخلت مع بعض الإخوة إلى صالون الشرف، حيث شرح لنا المسؤول عن المعبر بعض مرافق المعبر..

ثم كانت مقدمة هذا المقال، هي المشهد الثالث حيث كنت قد بدأت المقال، والآن أكتب هذه الكلمات في الفندق صباح اليوم التالي (الخميس 13-12-2012).. حيث لم يتسنّ لنا الكتابة في الهواء الطلق والشمس الساطعة، رغم انتظارنا أربع ساعات.

فبعد انتظار داخل المعبر نحو ساعتين، أنجزنا أوراقنا وصلينا في المصلى، وسررنا بدخولنا الحافلات للانطلاق إلى القاهرة لعلنا نرى بعض معالمها.. فجاء خبر يفيد بعدم تمكننا من التحرك قبل امتلاء ست حافلات لنسير بها معاً في قافلة واحدة.. فقد ملأ وفد فلسطينيي لبنان حافلتين، والوفد الماليزي حافلة، والوفد الأردني حافلة والوفدان الليبي والبحراني حافلة، واستغرق هذا الأمر حوالي ثلاث ساعات ونصف.. وانطلقنا إلى القاهرة، ووصلناها بعد عدة محطات في سيناء.. ودخلنا الفندق عند منتصف الليل.

المشهد الرابع: يردّنا هذا المشهد إلى المشهد الأول، الطائرة شبه فارغة، بسبب كثافة الرحلات القادمة إلى مصر من لبنان، والمليئة بالركاب السوريين، فإن العودة تقتضي أن تكون الطائرة شبه فارغة، وهذا هو قانون العرض والطلب، أو قل.. الحرب والهجرة، والطرد والجذب..

ولا يمكن في هذه الرحلة القصيرة المحطات، الطويلة المعاناة، إلا أن تنشد مع المنشدين، وأنت عائد لتستكمل رحلة اللجوء الطويلة والنكبة المريرة:

بلاد العرب سجاني..