إبادة صبرا وشاتيلا في ذاكرةٍ حيّة
مروان عبد العال
قساوة تلك الصور التي احتوت جثث العشرات من أطفال
مجزرة صبرا وشاتيلا مكومةً بلا رحمة، وجثث الرجال تمتدّ على طول الحائط لا تدلّ إلاّ
على سلسلة إعدامات جماعية ارتكبها الاحتلال والعصابات اليمينية اللبنانية..
جعلت من المجزرة محطة هامة في تاريخ القضية الفلسطينية،
وفي حياة كل إنسان بغضّ النظر عن عرقه ودينه ولونه وجنسيته، فالقتل لا يعرف أيّ عقيدة
سوى عقيدة الإجرام والمجرمين!
وقد بدت حال الاحتلال الاسرائيلي حينها أمام العالم
الذي شاهد وقائع المجزرة في بث تلفزيونيّ، كمن ينقل مجموعة من الذئاب بآلياته ويدسّهم
في حظيرة مليئة بالنعاج النائمة لا حول لها ولا قوّة!
وإحياءًا لهذه الذكرى الأليمة في قاموس اللاجئين
الفلسطينيين في لبنان، تنقل إليكم شبكة العودة الإخبارية ذاكرة الكاتب والسياسي الفلسطيني
محمود كلّم، إبّان المجزرة..
ذاكرة الكاتب والسياسي مروان عبد العال
كنتُ منغمسًا بنشاط معتاد في مركز الكرمل الثقافي
الواقع على شاطئ البحر في مخيم نهر البارد، وفجأة دخل شاب مذعور، كان كلّ شيء فيه يصرخ،
لا يقوى على التقاط أنفاسه، ما زلت أذكر تفاصيل وجهه الأسمر وذرات العرق التي تبلل
جبينه ولن أنساه " أبو العيس" الشاب القصير القامة، كنت أعرفه شاباً من أبناء
مخيم شاتيلا، ما زالت كلماته تتدحرج بقسوة الحجارة وغزارة الرصاص في ذاكرتي وتحفر في
رأسي تلك الكلمة الموجزة المجلجلة بصدى مميت: "مجزرة"! كنت قد سمعت هذه الكلمة
على لسان والدتي التي لم تنس دير ياسين.. لكن لم أكن أدري أنها تعيد نفسها ونتوارثها
أباً عن جد.
تجمّع الناس حوله وهو يقصّ ما رأى، نظرات التعجّب
والصّدمة وحتى إلى عدم التصديق تعتلي وجوه الجمع، كأنه شاهدٌ حيّ على فيلم رعب أو أنّه
مجرّد هارب خائف يريد أن يهبط المعنويات!!
لم نصدقه لأنه يصف مشهد خرافي لا يُصدّق، رغم أنه
قادم من عين الفاجعة.
جاءت عائلات ناجية إلى المخيم، ولكن بعدها جاء صوت
مذيع راديو مونتي كارلو عبر نبرات صوت المذيع "نبيل درويش" وهو يقرأ تقرير
مراسل فرانس برس وكيف يعدّ الجثث المرمية فوق الشاحنة التي لم تتمكن من الفرار، والجثث
التي اختبأت تحت الشاحنة لكنها بقيت منتفخة على الرصيف! يومها قمنا بتسجيل تلك النشرة
المفصّلة المخصصة بوصف المجزرة بحذافيرها الشنيعة أثناء إعادتها على شريط كاسيت، وصرنا
نذيعها بدورنا في مكبر الصوت ليسمع المخيم أنين أخيه ..
شريط الكاسيت المسجل سمعناه عشرات بل مئات المرّات
وبقي في الأرشيف في مركز الكرمل حتى دمار مخيم نهر البارد عام 2007.
من يومها أدركت أكثر أننا محكومون بالإعدام معنويًا
وفيزيائيًا، طالما المجرم ما زال طليقًا والعالم لا يسمع ولا يريد أن يسمع لأننا نتمسّك
بالحق فعلينا أن نتعلم مزاولة عد الجثث! لكن الحقيقة أبقى وبها نصون الحق ونجدد لأمل.