إجماع فلسطيني على محاكمة دولية لـ"إسرائيل"
بقلم: حلمي موسى
في المداولات التي جرت أمس في الجمعية العمومية للأمم
المتحدة قال الأمين العام للمنظمة الدولية بان كي مون إنه «جرى قصف متكرّر لمنشآت
الأمم المتحدة التي شكلت ملاذاً لسكان القطاع. وهذه هجمات مثيرة للغضب، غير مقبولة
وغير مبررة».
واعتبر بان كي مون أن «القتل الجماعي والدمار الهائل في
غزة صدم العالم وأخجله»، مضيفاً أن هذه الأعمال تشكل أيضاً «انتهاكاً للقانون
الدولي، ما يوجب التحقيق فيها بأسرع ما يكون».
والواقع أنه رغم ضعف بان كي مون وخضوعه لإرادة القوى
العظمى، فإن الفلسطينيين لا يريدون منه أكثر من ذلك. فكلامه هذا يضع الأساس لأن
يواصل المجلس العالمي لحقوق الإنسان مساعيه لتشكيل لجنة تحقيق دولية على غرار ما
جرى مع اللجنة التي رأسها القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون. غير أنه،
وخلافاً لحرب «الرصاص المسكوب»، التي شنتها "إسرائيل" على غزة في ظل
انقسام فلسطيني حادّ، وقعت حرب «الجرف الصامد» في ظل توافق فلسطيني، تجلى قبل
الحرب بتشكيل حكومة التوافق، وأثناء الحرب باعتماد ورقة المطالب الموحدة والوفد
الموحد.
وبديهي أن هذا يشجّع على موقف رسمي فلسطيني يتسم بأهمية
فائقة، خصوصاً في ظل الضغط الشعبي والفصائلي من أجل التوجّه إلى المحكمة الجنائية
الدولية. وهناك دلائل كثيرة على أن السلطة الفلسطينية تدرس بجدية إمكانية الانضمام
إلى «معاهدة روما»، التي تفتح الطريق أمام السلطة، للادعاء على جهات إسرائيلية في
المحكمة الجنائية الدولية، بتهم ارتكاب جرائم حرب في أثناء «الجرف الصامد».
وتشير جهات مختلفة إلى أن النقاش الداخلي الفلسطيني حول
هذه المسألة تجاوز منذ زمن بعده القانوني، ودخل في البعد السياسي والفصائلي. وتدور
نقاشات جدية بين جهات في السلطة وفصائل فلسطينية، خصوصاً «حماس» و«الجهاد
الإسلامي»، حول مسألة الانضمام وعواقبها.
ومن شبه المؤكد أن ما جسّدته المقاومة في حرب «الجرف
الصامد» من تركيز واضح على العسكريين، سواء من خلال الاشتباكات المباشرة أو
الاقتحامات حول الأنفاق أو حتى القصف بمدافع الهاون، يشير إلى جهد كبير للتركيز
على الأهداف العسكرية. كما أن غالبية بيانات المقاومة عن إطلاق صواريخ كانت تتحدث
عن توجيهها إلى معسكرات جيش وقواعد عسكرية ومنشآت تخدم الأمن الإسرائيلي. ويشكل
استهداف المقاومة الفلسطينية أهدافاً مدنية، وإلحاق أذى بالمدنيين، نسبة ضئيلة
جداً، مقارنة بالاستهداف الصريح للمدنيين من جانب إسرائيل. وتشهد أعداد الشهداء في
الجانب الفلسطيني، وجلهم من الأطفال والنساء والشيوخ، على أن "إسرائيل" كانت
تستهدف المدنيين بوضوح. كما أن عدد العائلات التي أبيدت بكاملها، والتي زاد عددها
عن 80 عائلة، تشهد على الاستهداف الفاضح للمدنيين. ولا حاجة للإشارة إلى تدمير
المستشفيات والمساجد والمدارس، وحتى المصانع والبنى التحتية لتأكيد قصد استهداف
المدنيين.
ولذلك فإن المخاوف التي سرت في أوساط فلسطينية من أن
الانضمام إلى «معاهدة روما» قد تشكل ورقة ضد الفلسطينيين لم تعد ذات قيمة. فمن
ناحية السلطة الفلسطينية، هي التي توقع على المعاهدة، ومن جهة أخرى لا مقارنة
البتة بين ما يمكن اتهام جهات فلسطينية، ليست دولة، بجرائم حرب واتهام دولة بمثل
هذه الجرائم أو أكبر منها. وباختصار «الجريمة» الفصائلية فردية أو مجموعاتية، في
حين أن جريمة الدولة هي جريمة رسمية.
وقاد هذا المنطق إلى تزايد المؤيدين في أوساط القيادة
الفلسطينية للانضمام إلى «معاهدة روما». لكن لا أحد ينكر البعد السياسي في زيادة
التأييد، فالسلطة الفلسطينية تجد في التهديد بالانضمام إلى المنظمات الدولية،
وبينها «معاهدة روما»، ورقة ضغط تمارسها على إسرائيل. وليس صدفة أن وزير الخارجية
الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان يطالب من الآن برفض إشراك الرئيس الفلسطيني محمود عباس
(أبو مازن) وحكومة التوافق في مشاريع حلّ مشكلة القطاع، والسيطرة على معابره. وبرر
موقفه هذا بأن السلطة تلاحق "إسرائيل" في المحافل الدولية.
وكانت أوساط فلسطينية أكدت أنه في أعقاب الحرب
الإسرائيلية على غزة، عقد عباس العزم على الانضمام إلى «معاهدة روما». كما أن
زيارة وزير الخارجية رياض المالكي إلى المحكمة الجنائية، والاجتماع مع عدد من
رموزها وتصريحاته اللاحقة، تظهر جدية التعاطي الفلسطيني مع هذه المسألة.
وفي هذه الأثناء تهتم منظمات حقوق إنسان مختلفة في قطاع
غزة، وعلى رأسها «المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان» برئاسة راجي الصوراني، بجمع
وترتيب القضايا والملفات التي توفر الإدانة القاطعة لإسرائيل. وكانت تقارير هذه
المنظمات قد شكلت الأساس لتقرير غولدستون في العام 2009، وهناك تأكيدات بأن الخبرة
التي تراكمت في جمع الأدلة في الحروب السابقة ستظهر بالتأكيد هذه المرة بشكل أكبر.
وكان تقرير غولدستون قد وفر للفلسطينيين سلاحاً سياسياً
ودعائياً ضد "إسرائيل" في كل أرجاء العالم. غير أن الظروف الراهنة أفضل
للفلسطينيين من حرب «الرصاص المسكوب» التي قادتها حكومة كان الغرب ينظر إليها على
أنها تتطلع لتحقيق السلام، وأن الحرب ضد «حماس» في غزة كانت جزءاً من ذلك. لكن حرب
«الجرف الصامد» قادها بنيامين نتنياهو، وحكومة تعلن جهاراً رفضها التوصل إلى أي
اتفاق سياسي، وتصرّ على استمرار الوضع الراهن. وعرّض التقرير آنذاك الكثير من
الضباط والساسة الإسرائيليين لملاحقات قضائية في العديد من الدول الأوروبية، وهو
أمر قد يتكرر بشدة أكبر حالياً، خصوصاً أن الكثير من الدول رأت في التدمير المنهجي
الإسرائيلي واستهداف المدنيين جريمة مفضوحة.
وليس صدفة والحال هذه أن "إسرائيل" تتحسّب
للوضع الجديد، ولذلك فإنها تقوم بتحقيقات شكلية، وبهدف منع تحقيق دولي في الجرائم.
وعلى مدى أيام الحرب الأخيرة كانت "إسرائيل" تحاول التشكيك في كل قصف
تقوم به لمنشآت الأمم المتحدة بغرض إسكات الأصوات، وادعاء أن التحقيق جار على أمل
تقليص الأضرار.
وتحاول "إسرائيل" تبرئة نفسها بادعاء أنها لا
تستهدف المدنيين، وأنها طلبت منهم الابتعاد عن مناطق القتال. وتصرّ على أنها في كل
مرة يسقط فيها مدنيون كانت تستهدف محاربين ضالعين في القتال ضدها. ولكن هذا
الإدعاء غير مقبول، وحتى الأميركيين دانوا بشكل واضح الكثير من الجرائم التي
استهدفت مدنيين فلسطينيين، خصوصاً في منشآت الأمم المتحدة ومدارسها. كما أن وزيرة
الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون قالت، في سقطة لسان تعبر عن وعيها
لواقع غزة، أن القطاع مكتظ وبالتالي لا يمكن للمقاومة إطلاق الصواريخ إلا من مناطق
مأهولة.
في كل حال ورغم أحجام الدمار والقتل الهائلة في القطاع
جراء الغارات، تدّعي "إسرائيل" أنها وجهت كل القيادات العسكرية بشأن
مقتضيات القانون الدولي في أثناء القتال، وأنها وضعت إلى جانبهم خبراء في القانون
لتسويغ أو منع أية عمليات. لكن الضحايا في القطاع، بشراً وحجراً، وهم ألفا شهيد
وعشرة آلاف جريح وألوف البيوت والمدارس والمستشفيات المدمرة، يجسدون كذب هذا
الادعاء. وتقريباً كل شيء في غزة ينادي بعبارة واحدة: إلى اللقاء في لاهاي لمحاكمة
الجريمة والمجرمين.
المصدر: السفير