إرفع رأسك أنت فلسطيني
بقلم: سمير الحجاوي
بظلت الهوية بالنسبة للفلسطينيين مسألة محيرة، ذلك
لان الفلسطينيين وفقا لادوارد سعيد قد ابعدوا من ديارهم، وبالنتيجة تبعثروا في العالم،
وباستنادا إلى المقاييس التي تستعمل في الغالب لتعريف مجموعة اثنية، وهي الثقافة واللغة
والدين والعرق والأرض، فان الفلسطينيين يمثلون لغزا. لقد أصبحوا يعيشون في جميع دول
المنطقة وسواها ولا يقطنون أرضا واحدة، ولعل العامل الأهم في تطور هوية وطنية مميزة
لدى الفلسطينيين هو الخطر على طابع فلسطين العربي المتمثل في الصهيونية ومشروعها المتمثل
بوطن يهودي قومي في فلسطين، كما تقول الكاتبة بيسان عدوان، وقد تضافرت عدة عوامل لربط
الفلسطينيين بعضهم ببعض تمييزا لهم عن المجموعات الأخرى في دول الملجأ العربي، منها
فقدان الوطن وفقدان القدرة على ممارسة حق تقرير المصير، والسعي للمحافظة على التقاليد
والتاريخ وتعزيزهما، على الرغم من التعثر في المنفى والرغبة في العودةا
تتباين وجهات نظر الباحثين الفلسطينيين حول بدايات
تشكل الهوية الفلسطينية، فمنهم من يرجع هذه البدايات إلى ثورة الفلاحين الفلسطينيين
على الحكم العثماني، أو إفشال مشروع محمد علي بإقامة دولة موحدة في مصر والشام، ووعد
بلفور المشؤوم عام 1917 واحتلال بريطانيا لفلسطين، أو ثورة الشيخ عز الدين القسام عام
1936 والإضراب الفلسطيني الكبير الذي يعتبر أطول إضراب في التاريخ، بينما يرى آخرون
ان الهوية الوطنية الفلسطينية كانت في أوج تمثلاتها في الأربعينيات، حيث تبلور وعي
جمعي عميق بالخطر الصهيوني، والتأكيد على استقلال فلسطين وبناء دولة ديمقراطية واحدة،
وإقامة تعبيرات سياسية كيانية تمثيلية، كان أبرزها اللجنة القومية العليا، والأحزاب
السياسية والاتحادات النقابية والمؤسسات الشعبية والاجتماعية المختلفة والتعبيرات الثقافية،
كالمجلات والمطبوعات، فيما يرى البعض أن النكبة عام 1948 شكلت عنصرا أساسيا مكونا للهوية
الفلسطينية وبقعة في الذاكرة الفلسطينية الجماعية التي تربط كل الفلسطينيين بنقطة معينة’،
وان هذه النكبة والإعلان عن إقامة دولة إسرائيل اثرا بشكل كبير جدا على إعطاء حدود
جغرافية جديدة لواقع الهوية الفلسطينية ومستقبلها.
لكن مع انتهاء حرب عام 1948 وجد الفلسطينيون أنفسهم
يعيشون في واقع جديد ميزه عدم وجود قيادة فلسطينية موحدة، وعاشوا تحت ثلاثة أنظمة حكم
وهي الأردن ومصر وإسرائيل، واجبر جزء كبير من الفلسطينيين على مغادرة فلسطين واللجوء
إلى الدول المجاورة والعيش لاجئين في مخيمات الشتات والضفة الغربية وقطاع غزة، وقد
لعب اللجوء دورا كبيرا في بناء الهوية الفلسطينية، خصوصا في كيفية تعريف الفلسطيني
لنفسه، وبات هذا المفهوم ملازما لكل فلسطيني، وجزءا من هويته الوطنية، ثم جاءت النكسة
عام 1967 التي وحدت جميع الفلسطينيين وبتركتهم جميعا بدون وطن، بسيطرة الكيان الإسرائيلي
على كل فلسطين.
بطبيعة الحال انتقل الفلسطينيون من الحالة السلبية
إلى التعامل مع واقع الهزيمة، فانطلقت المقاومة الفلسطينية عام 1965 واستطاعت أن ترسخ
وجودها كـبهوية فلسطينية مقاومة’، ولم يطل الوقت حتى جاءت معركة الكرامة في غور الأردن،
التي انتصرت فيها المقاومة الفلسطينية والجيش الاردني على االجيش الإسرائيلي الذي لا
يقهر’، وأدى ذلك إلى تصاعد الشعور الزاهي بالهوية الفلسطينية، ورفض الإقصاء، ودحر المقولات
الصهيونية أن افلسطين ارض بلا شعب’، لكن المقاومة الفلسطينية التي تصدت للجيش الإسرائيلي
سرعان ما وجدت نفسها لاحقا في مواجهات مع النظامين الاردني والسوري وحلفائه اللبنانيين،
مما عرض الفلسطينيين إلى حالة من الإقصاء المزدوج في الأردن ولبنان.
لكن الهوية الفلسطينية المـــقاومة اســــتطاعت ان
تجتاز عتبة الإقصاء الكامل للنظام الأردني، بقيادة الملك حسين والســـوري بقــــيادة
بشار الأسد وحلفــــائه من القوات اللبنانية والكتائب وحركة امل، وخاض الفلسطينيون
ملحـــمة كبيرة ضـــد الجيش الإسرائيلي عام 1982، وعلى الرغم من اجبار المقاومة الفلسطينية
على الخروج من لبنان في النهاية، فقد ترسخت الهوية الفلسطينية بقوة، وأضحى الشعب الفلسطيني
حقيقة قائمة بذاتها وليس ملحقا بهذا البلد او ذاك.
وأدى جنوح العرب للتسوية مع إسرائيل بعد حرب 1973 وتوقيع
اتفاقيات كامب ديفيد، إلى ترك الفلسطينيين وحدهم في مواجهة إسرائيل، وتسبب اعتراف جامعة
الدول العربية بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني
عام 1974، إلى نفض العرب أيديهم من القضية الفلسطينية عمليا، وأصبح تحرير فلسطين مسؤولية
الفلسطينيين فقط، وعلى الرغم من أن هذا الاعتراف كرس الهوية الفلسطينية المستقلة، ووقف
اعتبار الفلسطينيين ملحقا بهذا البلد العربي او ذاك، إلا أن الأثر السلبي لهذا الاعتراف
كان ترك الفلسطينيين وحدهم في العراء في مواجهة المخططات الصهيونية، واستمر مسلسل السقوط
بعد ذلك بعقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1992 وتوقيع اتفاق أوسلو بعد ذلك، واعتراف منظمة
التحرير الفلسطينية بإسرائيل، مما فتح الباب أمام إعادة تعريف الشعب الفلسطيني والهوية
الفلسطينية.
ويلخص الكاتب الفلسطيني ماجد الكيالي الوضع الحالي
للفلسطينيين وهويتهم بقوله: لقد فعلت ااتفاقية أوسلو’، المذلّة والناقصة والمجحفة،
أشياء كثيرة وخطيرة، إذ جوّفت حركة التحرر الفلسطينية، التي صاغت هوية الفلسطينيين
وجعلتهم شعباً، بتحويلها إلى مجرّد سلطة تحت الاحتلال، وإزاحتها منظمة التحرير الكيان
السياسي الجامع للفلسطينيين.. وكان من نتائجها الخطيرة أيضا وضع الهوية الفلسطينية
وتجمعات الفلسطينيين الوطنية ورؤيتهم لذاتهم كشعب على مسار التفكّكب.
وهنا يكمن الخطر إذ أن السلطة الفلسطينية وكل مشاريع
التسوية لم تعمل إلا في مسار تفكيك الهوية الفلسطينية، والتعامل مع الفلسطينيين على
أنهم فائض بشري في المنطقة أو حالة إنسانية لا أكثر، لكن هذه النظرة السوداوية توازيها
نظرة ايجابية، وهي تمسك الشعب الفلسطيني بوطنه وأرضه، فقد أثبتت الأيام أن الأجيال
الفلسطينية الجديدة أكثر حرصا على فلسطينيتها من الآباء والأجداد، وأنهم لا ينسونها
أبدا رغم عدم زيارتهم لها، وهذا يعني أن الحل الوحيد الممكن هو عودة الفلسطينيين إلى
وطنهم فلسطين، وبالتالي فان من يفكر بإمكانية التوصل إلى تسوية أو سلام بدون إنهاء
الاحتلال وعودة جميع اللاجئين فهو كمن يحرث في البحر، فالشعب الفلسطيني اليوم يؤمن
بفلسطينيته أكثر من أي وقت مضــــى، فهو مؤمن بهويته وعودته إلى وطنه مهما طال الزمن..
ويكفي أن 65 عاما من الاحتلال والنكبة لم تثن الفلسطينيين عن الإعلان عن هويتهم الفلسطينية..
فلسطينيون كنا.. فلسطينيون ما زلنا.. فلسطينيون سنبقى إلى الأبد، لا وطن لنا إلا فلسطين
ارض الآباء والأجداد. ففي كل مكان يهتف الفلســطينيون: ارفع رأسك أنت فلسطيني.
القدس العربي، لندن، 15/5/2013