القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

"إسـرائـيـل" وهـلـع الـديمـغـرافـيـا

"إسـرائـيـل" وهـلـع الـديمـغـرافـيـا

علي بدوان

بات الحديث عن التطورات الديمغرافية السكانية على أرض فلسطين التاريخية هماً كبيراً وملازماً في الحياة السياسة الإسرائيلية ومصدر قلق وتوتر شديدين لدى صناع القرار في الدولة العبرية الصهيونية.

وبدورها باتت مسألة التناقص في أعداد اليهود في العالم داخل بلدانهم ومواطنهم الأصلية هماً ملازماً أيضاً يَقُضُ مضاجع الحركة الصهيونية والمنظمة اليهودية العالمية.

اضمحلال الدياسبورا

فقبل فترة خلت أصدر يوسي بيلين الذي يعد من أبرز المفكّرين الإسرائيليّين الصهاينة الذين كتبوا عن مستقبل "إسرائيل" بشكل استشرافي، كتابه المعروف موت العم الأميركي وفيه يرتعب ويتملكه الخوف من المستقبل انطلاقاً من جملة مؤشّرات تصبّ في النهاية في مصلحة اضمحلال ما أسماه الدياسبورا اليهودية ويقصد بالطبع يهود العالم، وعزوف غالبيتهم عن التوجه إلى "إسرائيل"، مُعلناً صرخته التي يقول فيها أشعر بنوع من الهيستيريا والخوف إزاء ذوبان اليهود خارج دولة "إسرائيل".

وفي الوقت الذي أصبحت فيه الأمور تنحو نحو الانحسار المتدرج للمشروع الصهيوني التوراتي وتراجعه بفضل نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية وصمود الشعب الفلسطيني وثباته من تبقى منه فوق أرضه التاريخية، بدأت مصادر القرار في "إسرائيل" تنظر إلى تحولات وتطورات المسارات السكانية الديمغرافية على أرض فلسطين التاريخية باعتبارها عاملاً مؤثراً في ميزان القوى الإستراتيجي بين الدولة العبرية الصهيونية والشعب الفلسطيني، وتالياً مع البلدان العربية خصوصاً منها المحيطة بفلسطين. مضافاً إليها التحولات الجارية في المسارات السكانية المتعلقة بوجود المجموعات الإثنية اليهودية داخل بلادها الأم، وفي نوع العلاقات بين "إسرائيل" ذاتها وما يسمى بـ«يهود الشتات»، إلى درجة بدأت فيها الشكوك تساور بعض أقطاب عتاة اليمين الصهيوني حول ما تسميه مصادر اليمين ذاته بمسألة الوجود اليهودي في المستقبل في ظل المعطيات الرقمية التي تشير إلى تناقص عدد اليهود في العالم بشكل لم يسبق له مثيل. كما في تأثير الأوضاع السياسية المتفجرة في المنطقة والأزمات الدولية ذات العلاقة بالصراع العربي مع العدو الإسرائيلي على يهود الدولة العبرية، واليهود عامة، منطلقين من تناول اليهود بالجملة، ووضعهم في سلة واحدة باعتبارهم شعباً واحداً وأمة قومية (وهو أمر مخالف للمنطق، فاليهودية دين وليست شعب أو قومية).

إن اليهود المنتشرين في شتى أنحاء العالم من الوجهة الصهيونية (ونقول من الوجهة الصهيونية الصرفة) لا يدينون بالولاء لأوطانهم التي يقيمون فيها، ويحنون بطبيعتهم إلى العودة إلى وطنهم المزعوم، أي فلسطين لأنهم يعرفون أن جوهرهم اليهودي لن يتحقق إلا هناك رغم تعارض ذلك ليس فقط مع حقيقة الأمر وواقع اليهود في دول العالم المختلفة، وإنما أيضاً مع نظرة العديد من اليهود إلى أنفسهم وهويتهم، فالقومية اليهودية والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطاً عضوياً وحتمياً بأرض "إسرائيل" التاريخية بات أمراً مليئاً بالهراء ومناقض للمنطق العلمي بنظر العالم وحتى قطاعات من اليهود أنفسهم، وأكذوبة كبرى.

لقد نوقشت وأشبعت نقاشاً كل المفاهيم والفرضيات السابقة في الدورات المتتالية لمؤتمرات هرتسليا السنوية في "إسرائيل" ومؤتمر مستقبل الشعب اليهودي ومشاركة كافة القيادات الإسرائيلية العليا ونخبة من السياسيين والأكاديميين اليهود في العالم، حيث جرى تسليط الضوء، على واقع انتشار اليهود الديمغرافي في العالم، والحديث بالتفصيل عن ما سمي بالتهديدات الجغرافية السياسية المركزية التي تعرض وجود الشعب اليهودي للخطر، والميزان الديمغرافي وسوى ذلك من الأخطار المفترضة والوهمية منها، واليهود والجغرافيا السياسية، والقيادة اليهودية، ومستقبل الجاليات اليهودية، والهوية والديمغرافيا اليهودية.

رهانات العامل الديمغرافي

وتشير الإحصاءات المدققة والمعطيات الرسمية المختلفة ومنها التي وزعها ونشرها ما يسمى بمعهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي الذي أسسته الوكالة اليهودية إلى أن أعداد اليهود في العالم ككل أخذة بالتراجع والانخفاض لأسباب مختلفة، ففي الثلاثين عاماً الأخيرة انخفض عدد اليهود خارج فلسطين المحتلة بـ (2.3) مليون نسمة، في حين بات يبلغ الآن وفق تقديرات الوكالة اليهودية (7.76) مليون فقط، أي أنها قد انخفضت خارج فلسطين بنحو الربع منذ العام 1970 ويظهر من المعطيات أن (7 ملايين و760) ألف يهودي يعيشون اليوم خارج "إسرائيل" في مقابلة أكثر من (10 ملايين في العام 1970). لنجد بالمحصلة النهائية أن أعداد اليهود في العالم بما في ذلك فلسطين المحتلة في تراجع عام، حيث بلغت أعدادهم بحدود ثلاثة عشر مليون نسمة مع نهاية العام 2006، بينما كانت لم تتعد سبعة عشر مليون نسمة عام 1970.

أما في حدود الكيان الإسرائيلي الصهيوني، فقد أظهرت معطيات إحصائية نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية منذ مدة، أن نسبة اليهود في "إسرائيل" في انخفاض كنسبة وتناسب مع نسبة المواطنين العرب الآخذة في الارتفاع. فقد جاء أن نسبة اليهود في "إسرائيل" انخفضت (1,8%)، فيما ارتفعت نسبة العرب (1,1%)، بينما جاءت نسبة الزيادة في أعداد اليهود من عامل الهجرة (المتراجعة) بالدرجة الأساسية. وعليه فان أعداد اليهود في فلسطين المحتلة عام 1948 تساوي نحو (خمسة ملايين ونصف المليون)، فيما عدد العرب (مليون وسبعمائة وخمسين ألفاً) نسمة، بينهم نحو (240 ألفاً) من سكان القدس الشرقية المحتلة، ونحو (20) ألفاً من سكان القرى الخمس السورية في هضبة الجولان المحتل (الغجر، مسعدة، مجدل شمس، عين قنيا، بقعاتا).

وخلاصة القول، هناك في الساحة الفلسطينية من يطلق رهانات على العامل الديمغرافي وتطوره على أرض فلسطين التاريخية في مسار العملية الوطنية الفلسطينية، بل ويذهب الكثيرين للمبالغة بهذا الأمر، فالعامل الديمغرافي لا يمكن له أن يحسم الأمور في نهاية المطاف ما لم يترافق مع إحداث تحولات نوعية في مسار الصراع بين المشروع الوطني الفلسطيني والمشروع الصهيوني في جبهة مفتوحة لا تقف عند حدود معينة بل تتعداها في إطار عملية وطنية شاملة يجب ويُفتَرَض أن تُستخدم في بوتقتها كل عوامل القوة باليد الفلسطينية وحتى العربية على طريق لجم المشروع الصهيوني وانتصار المشروع الوطني الفلسطيني.

إن عنصر الديمغرافيا الضاغط يُشكّل الآن عامل هلعٍ كبير عند صُناع القرار في "إسرائيل" لكن هذا العُنصر لا يكفي وحده في مسار مواجهة المشروع الكولونيالي الصهيوني على أرض فلسطين وفي المنطقة عموماً، بل يتطلب شحذ كل أدوات الفعل والتأثير العربية والفلسطينية.

صحيفة الوطن القطرية