«ابتسم عدنا يا سعسع»
الإثنين، 27 حزيران، 2011
لا تزال ذاكرتي تحفظه، كم زرته سابقاً، وكم كنت سعيدة جداً بزياراتي المتقطعة له. فرائحة الوطن تعبق بين حاراته وشوارعه التي تغص وتضج بالحياة. كان اسمه بارداً، لكنه لم يكن بارداً أبداً. عند نزولك من مفرق المحمرة مروراً بمجمع الشهيد ناجي العلي، تستقبلك التعاونية بصدر رحب، فتتجه يساراً فإذا بك في الشارع العام، سيارات على الميمنة والميسرة، أطفال يتراكضون هنا وهناك. تشدك قدماك للمضيّ نحو حارات تحمل أسماء قرى فلسطين: هنا صفورية، تتربع في القسم العلوي من المخيم، تنظر إلى شقيقتها حارة سعسع التحتا، بحنين ما قبل النكبة والأزمة التي أودت بحياة نهر البارد، الوطن الصغير ، فلسطينهم الأخرى. كأن التاريخ يعيد نفسه وصفورية وأهلها يفتقدون سعسع وأهلها، باشتياق لم ولن يمر عليه الزمن، وإذا بك ترى فلسطينهم الأخرى تحولت إلى رموز وأرقام أشبه بالحفريات الأثرية.
زرت هذه الفلسطين الأخرى وكلي شوق وحنين إلى فلسطيني الأولى، وإذا بي لا أرى من فلسطينهم سوى مسميات جديدة لأحياء قديمة، لم تزل في ذاكرتي عنواناً لعودتي إلى فلسطين وإذا بها عودة غير العودة. «ابتسم عدنا إليك يا سعسع»، هيهات ما بين سعسع التي كانت وسعسع التي أصبحت. سعسع اليوم هي N2، رمز كأنه هيروغلوفي قل من يدركه. «هلأ الزاروب صار أوسع» هكذا قالت صديقتي في عجل وهي تنظر غير مصدقة، مردفة «وصار اسم الحي N2 !! آه والله توفقنا». قلت لها «والبحر هنا، هل لي من نظرة إليه؟»، أمسكت يدي وصعدنا إلى الطبقة العلوية، وإذا بي لا أرى بحراً بل أطلال فلسطينهم الأخرى. كدت أبكي عليها، فتلك هناك ما كان يوماً يسمى جاحولا، ومن خلفها الدامون، مجرد أعمدة وأسقف غير مكتملة الملامح، فهل من عودة إليهما هنا وهناك!
يعرف الأول من نيسان بالكذب، لكن الرقم 9 أضيف إليه، فأصبح 19 نيسان، يوم تسليم 41 بيتاً من حي سعسع لسكانه. يعني أن الأمر أصبح حقيقة، والعودة إلى البيوت أيضاً حقيقة، لكن الحقيقة المرة أنك لست في سعسع التي تمتد من الشارع العام إلى باب السوق، فالحي في الأوراق الرسمية للإعمار يطلق عليه «المرحلة الأولى»، أي أن عليك أن تنتظر مدة لا يعرفها إلا الله كي ترى سعسع التحتا وقد سُلمت بكاملها إلى سكانها. ليس الأمر مزحة، فأحياء البارد التي كانت تحمل أسماء القرى الفلسطينية التي هجرت عام 48، وسكنها أهالي تلك القرى، تحولت بين ليلة وضحاها إلى أرقام وأحرف بالإنكليزية على خرائط الإعمار. والبداية من المجمعات السكنية أو Plots، والتي حملت أرقام 744، 674، 23، 755، 385 في المخيم الجديد، لتصيب عدواها الأحياء في المخيم القديم الذي قسم إلى 8 مراحل أو Packages وهذه المراحل قسمت بدورها إلى N1,N2,N6...الخ. ما أحلى الرجوع إليه، أغنية كانت في بالي عندما وطأت قدماي سعسع الجديدة. كانت، قبل أن أتوغل في الحي الجديد.
المصدر: جريدة الأخبار - ميس سليمان