اسلاميو
ثورات الربيع العربي وقضية فلسطين
بقلم:
اللدكتور محسن صالح
يستغرب
عديدون انغماس الإسلاميين -الذين يقودون حركات التغيير في عالمنا العربي- بالشأن القُطري
المحلي، وعدم حضور القضية الفلسطينية بشكل واضح في خطابهم السياسي، وعدم اتخاذهم مواقف
حاسمة تجاه "إسرائيل" وتجاه القوى الغربية المساندة لها وخصوصاً الولايات
المتحدة.
ويقارن
البعض البيانات الأولى للانقلابات العربية في أواسط القرن الماضي، والتي جعلت فلسطين
إمّا سبباً لانقلاباتها أو في أولويات عملها، وبين الثورات الحالية التي ركزت على أولويات
محاربة الفساد وتحسين الاقتصاد والديمقراطية، وإعادة هيكلة المؤسسات، وأعطت الجهد الأكبر
للهمّ المحلي، بينما تحدثت على استحياء عن قضايا الأمة وتحديداً فلسطين. بل ويزداد
التشكّك في بعض الأوساط التي ما زالت تحسب نفسها على ما يُعرف بـ"محور الممانعة"،
والتي تدّعي أن هناك صفقة ما بين الإخوان المسلمين وأميركا للقيام بعملية التغيير واستيعاب
الإخوان في النظام السياسي العربي الجديد، دون أن ينعكس ذلك بالضرورة على الصراع مع
"إسرائيل".
يحاول
هذا المقال فهم مواقف ومبررات الإسلاميين العرب، خصوصاً تيار الإخوان المسلمين في مصر
وتونس، حيث يمكن تلخيصها في الاعتبارات التالية:
1-
الثورات أو التغيّرات التي حدثت في عدد من البلدان والتي تصدَّر عمليات التغيير فيها
الإسلاميون، هي ثورات أو تغيّرات غير ناجزة أو غير مكتملة، فقد كان يزول رأس النظام
وتبقى معظم مكوناته، أو تتسع مساحة الحريات دون تغيير النظام من رأس هرمه إلى أدناه.
فهي لم تأتِ (كما في حالة الانقلابات العسكرية) على ظهور الدبابات، ولم تمسك بعدُ بمفاصل
الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والإعلامية. حيث آثر الإسلاميون
التغيير الديمقراطي المتدرج من خلال المؤسسات الدستورية ومن خلال التداول السلمي للسلطة.
وبالتالي فمن السابق لأوانه محاسبة الإسلاميين على صلاحيات وسلطات لم يملكوها حتى الآن.
2-
في الأنظمة الجديدة التي لا تعتمد على قرارات قادة الانقلاب الجدد، ولا على ما يمليه
"الزعيم الجديد المُلهم"، لم يفز لون واحد من الإسلاميين بأغلبية المقاعد،
فاحترموا قواعد اللعبة الديمقراطية، ولم يفرضوا آراءهم فرضاً وإنما سعوا إلى الشراكة
مع القوى السياسية المختلفة في إدارة المرحلة الانتقالية، بل وفي إدارة الحكم...، وبالتالي
فإن ناتج السياسات لم يُعبِّر بالضرورة عن الآراء الخاصة بهم، وإنما ركز على القضايا
الأساسية المتفق عليها.
3-
لعب هاجس الخوف من تكرار "النموذج الجزائري" في التعامل مع الإسلاميين عندما
فازوا في الانتخابات أوخر 1991، وهاجس احتمالات التعامل الغربي بالحصار والإسقاط والإفشال،
كما حدث ويحدث مع حماس في فلسطين ومع السودان ومع إيران...؛ لعب دوراً كبيراً في وعي
ولا وعي القوى الإسلامية الصاعدة، للسعي لتجنب إثارة القوى المضادة للثورة والتي ما
تزال تملك أوراق ضغط هائلة، تمكنها من إسقاطهم أو إفشال تجربتهم، أو زجّ البلاد في
حمامات دم داخلية وحروب أهلية. كما لعب النموذج التركي، من جهة أخرى، دوراً جذاباً
في أسلوبه التدريجي ونجاحاته الاقتصادية والسياسية.
وبانتظار
استكمال عملية التغيير وبنيتها، واستكمال التحولات المؤسسية السياسية والاقتصادية والعسكرية
والأمنية، وتقوية الجبهة الداخلية، فإن القوى الإسلامية الصاعدة آثرت تقديم أكبر قدر
من المرونة، وطمأنة الآخرين أو تحييدهم، وعدم الدخول في معارك خاسرة أو سابقة لأوانها،
وهي غير جاهزة لها.
وبالتالي
فإن الخوف على التجربة من أن يتم وأدها، وإجهاضها قبل أن يشتد عودها، كان واضحاً في
سلوك الإسلاميين؛ وهكذا، فلم يرَ الإسلاميون مصلحة في استعجال استعداء القوى المختلفة،
ولا في إعطاء المبررات للتدخل الخارجي.
4-
وجد الإسلاميون أنفسهم أمام جبهة داخلية مضعضعة ومفككة ومخترقة من الأجنبي، وتعشعش
فيها العديد من مافيات الفساد. وأمام واقع مليء بمئات الألغام المحتملة في الجيش والأجهزة
الأمنية والاقتصاد وفي التكوينات العرقية والطائفية. وفي مقابل الإنسان الثائر في ميادين
الحرية وجدوا أنفسهم أيضاً أمام إنسان جرى تشويه إنسانيته وإذلاله، وتغريبه، وإبعاده
عن دينه وتراثه وحضارته، وعن مكونات عزته وكرامته.
وبالتالي
فقد رأوا أن تقوية الجبهة الداخلية وتماسكها ومناعتها من الاختراق، وأن بناء عناصر
القوة، وتحرير الإنسان من براثن الفساد والتخلف، ومن عُقد الإذلال والتغريب والتبعية
هي شروط سابقة لأي مشروع جاد لتحرير الأرض والمقدسات. وأن فقه الأولويات يقتضي التركيز
على هذه الجوانب أولاً.
5-
يرفض الإسلاميون الادعاء بأن فلسطين لم تكن حاضرة في خطابهم السياسي، ولكن ربما كان
انشغالهم الهائل بتغيير النظام، واستهلاك طاقتهم السياسية والإعلامية في هذا المجال،
مع تركيز وسائل الإعلام العالمية والمحلية على القضايا المرتبطة بالثورات، جعل الحديث
عن فلسطين يبدو هامشياً، أو غير حاضر حضور القضايا الساخنة الأخرى. فأعلام فلسطين والدعوة
لنصرتها كانت حاضرة بدرجات مختلفة في ميادين مصر وتونس واليمن وليبيا، وترددت جُمل
"اليوم هنا وغداً في القدس" في هذه البلدان وغيرها. وفي مصر، أقيمت جمعة
للقدس في ميدان التحرير بمشاركة مئات الآلاف، وهوجمت السفارة الإسرائيلية حتى كادت
تُقتحم.
وعلى
سبيل المثال، فإن تصريحات مهمة جداً لقادة الإخوان المسلمين في مصر بشأن "إسرائيل"
وأميركا، لم تلقَ اهتماماً إعلامياً بقدر ما لقيت بعض التصريحات المبهمة المنتزعة من
سياقها في الشأن نفسه. فمثلاً قال المرشد العام للإخوان المسلمين محمد بديع في رسالته
الأسبوعية التي نُشرت في 19/5/2011، إن "إسرائيل لن تهنأ بالنوم بعد اليوم، ولن
تعرف طريق الأمن والاستقرار ما دامت تستهين بحقوق الفلسطينيين"، وأكد أن الكيان
الصهيوني وفي ظلّ الثورات الشعبية العربية سوف "يشرب من نفس الكأس التي طالما
أذاقها للآخرين" (جريدة الخليج، الشارقة، 20/5/2011).
"بديع:
إسرائيل لن تهنأ بالنوم بعد اليوم، ولن تعرف طريق الأمن والاستقرار ما دامت تستهين
بحقوق الفلسطينيين, وعلى أميركا أن تعترف بأن هناك احتلالاً صهيونياً لفلسطين، وأن
هناك اغتصاباً لأرضها وتهجيراً لأصحابها الشرعيين" وقال بديع في تصريح نُشر في
منتصف سبتمبر/أيلول 2011 "أن جماعة الإخوان المسلمين تعتبر فلسطين قضيتها الأولى"،
وأوضح أن النظام المصري السابق "ظلم القضية الفلسطينية، وتخلى عنها لصالح المشروع
الصهيوني الأميركي"، وأن ذلك كان أحد أسباب قيام الثورة المصرية التي غيَّرت الأوضاع
لصالح نصرة الشعب الفلسطيني (وكالة سما الإخبارية، 18/9/2011). وفي رسالته الأسبوعية
التي نشرت مقتطفات منها جريدة الرأي الكويتية في 17/9/2011، شنّ المرشد العام للإخوان
هجوماً حاداً على أميركا مؤكداً أن "أفول نجمها قد بدأ، وأنها ستسقط سريعاً مثل
سقوط قوم عاد". وطالب بديع الإدارة الأميركية بأن تعترف بأن هناك احتلالاً صهيونياً
لفلسطين، وأن هناك اغتصاباً لأرضها وتهجيراً لأصحابها الشرعيين. وأضاف بأن أميركا إذا
كانت معنية حقاً بالقضاء على الإرهاب فعليها أن تبحث عن دوافعه ومسبباته، وأنها كامنة
دون شكّ في "قهر الشعوب، والتعالي عليها، والكيل لها بمكيال خاص، وهي تحديداً
متجذرة في النكبة الفلسطينية"، وقال المرشد العام للإخوان إن "الثورات العربية
قامت لصدّ تلك الهجمة الصهيوأميركية".
أما
محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة الذي يمثل الإخوان في مصر فذكر في تصريح نُشر في
23/1/2012 أن "القضية الفلسطينية كانت وما زالت وسوف تظل في قلب الشعب المصري،
وفي القلب منه حزب الحرية والعدالة، خاصة وأنها كانت إحدى المحركات الأساسية لثورة
الشعب المصري".
وفي
تونس أهدى راشد الغنوشي فوز حركة النهضة في الانتخابات إلى "فلسطين والقدس وغزة
والشعب الفلسطيني" معتبراً أن "الصمود البطولي لغزة كان له أثر على أبناء
الأمة في كل مكان" (جريدة القدس العربي، لندن، 27/10/2011).
وقال
الغنوشي في مناسبة أخرى إن قضية فلسطين هي قضية الأمة وليست قضية شعب بمفرده، وإنه
لا يمكن أن نستعيدها إلا بالوحدة، وأكد أن "الاهتمام بالقضية الفلسطينية يصل إلى
مستوى العقيدة والقداسة، وأن من خان القدس فقد أنكر القرآن، وأننا لن نقصر في دعم هذا
الشعب العظيم" (وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)، 4/11/2011). لم تحظَ
هذه التصريحات القوية الواضحة للغنوشي، بما حظيت به تصريحات أخرى له ملتبسة نُزع بعضها
من سياقه، خلال ندوة "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" في 11/30/2011 وجرى
التشهير به على أساسها.
أما
حمادي الجبالي رئيس الوزراء التونسي الذي أخذته الحماسة عندما رأى ضيفة فلسطينية في
أحد الاجتماعات الشعبية في مدينة سوسة فقد قال إن "حضور الأخت من فلسطين إشارة
ربانية، من هنا ينطلق بعون الله فتح القدس، من هنا بدأت الثورة العربية، ومن هنا الفتح
بعون الله." (جريدة الحياة، لندن، 16/11/2011).
ولا
يتسع حجم المقال للمضي في الاستشهادات والنقولات، ولكن من المهم عدم الاستعجال في توجيه
الاتهامات للإسلاميين بسبب تصريحات مجتزأة ومبسترة وخارجة عن سياقها، ودون الأخذ في
الاعتبار مجموع مواقفهم الرسمية وتصريحاتهم التي تعبر عنها قيادتهم.
6-
هناك خلط واضح، ومتعمد أحياناً، بين موقف الإسلاميين أنفسهم كأحزاب، والطريقة التي
يرونها لتنفيذ مواقفهم بشكل عملي في مؤسسات الدولة الدستورية والسياسية. فمثلاً هناك
رفض قاطع من قِبَل الإخوان المسلمين جرى تكراره مراراً لاتفاقية كامب ديفد وللحوار
مع الإسرائيليين.