اقتحام
الأقصى ومتلازمة العجز
بقلم:
زياد ابحيص
عند كل
اقتحامٍ للمسجد الأقصى تثور في نفسه الحاجة للفعل، الحاجة للتدخل والتأثير والدفاع
عن المسجد الأقصى، يسأل نفسه: ماذا يمكن أن أفعل؟ يشارك صور الاقتحامات والاعتداء على
المرابطات على وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، يدعو الأمة "النائمة"
لـ "تستفيق"، لكن تلك الأمة لا تردّ عليه، ولا "تستفيق". لطالما
أدان عجز الأمة تجاه مسجدها، وها هو اليوم يريد عمل أي شيء، فلا يجد سوى وسائل التواصل
الاجتماعي وبعض النقاشات اليائسة في محيطه الاجتماعي، فلا يملك إلا أن ينظر إلى نفسه
بسخطٍ وهو ينزلق إلى جموع العاجزين، إذ إن كل ما يفعله لا يبدو ذا وزنٍ في المعادلة
الكبرى.
يشتد
النقاش مع أصدقائه بحثا عن مخرج، عن أي فعلٍ ممكن، يخرج أحد أصدقائه برأي "ثاقب"
يلخص جوهر المسألة: "الأقصى بِدّو دم، وبِدّو رجال، غير هيك عَبَث"، يرتاح
صديقه "المتبصر" بعد أن أتى بجوهر المسألة، وأنهى حوار المتحاورين، وخصام
المتخاصمين. وبما أنهم لا سبيل لهم إلى الدم، وإلى المواجهة، لا هم ولا غيرهم من جموع
العاجزين، ينتهي الحوار بهذا الاستنتاج، يعود كل منهم إلى عمله وإلى حياته، يبحث عن
لقمة عيشه و"تأمين مستقبله" في هذه الظروف الصعبة، تعود أخبار الاقتحام إلى
الواجهة بعد شهرين من الزمن، صور قنابل الدخان في الأقصى، وجنود مدجّجون يعتدون على
نساء عزّل هن خط الدفاع عن هذا المقدس السليب، يفور الدم في عروقه، يبحث عن أي شيء
يمكن فعله... أي شيء؛ يعود إلى وسائل التواصل من جديد، وإلى نقاشاته إياها، ويطلب من
أصحاب "البصيرة" ذاتهم من جديد. هي دوامة من العجز إذن، عجزٌ يعلن نفسه باسم
العجز، وعجزٌ آخر يختبئ خلف مقولات الدم والسلاح والطريق الواضح الذي يعرفه، لكنه لا
يقل إبحاراً في عالم العجز عن ذاك الأول، بل هو أكثر منه سلبية؛ إذ يدين أصحاب الفعل
المحدود وغير المؤثر وينصِّب نفسه وصياً أخلاقيا عليهم دونما مزية أو إضافة!
هل لهذا
العجز من مخرجٍ يا ترى؟ أم سنبقى نجترّه ونعيده مرّةً بعد أخرى؟ ليس من السهل على أحد
أن يدعي امتلاك حلٍّ سحري، لكن دوامة العجز تلك لا يمكن أن تنتهي ما لم نفككها ونفهمها
ونعمل على كسرها مرةً بعد أخرى دونما ملَل.
دوامة
العجز: محاولة للتفكيك
لم يأتِ
هذا العجز من فراغ، فله أسبابه التاريخية الداخلية والخارجية: من أمة افتقدت الحيوية
وعجزت عن التجديد، حتى انهارت دولتها الموحدة في مواجهة قوىً غربية صاعدة ومتمكّنة
سبقتها في أدوات التقدم المادي بشوط طويل، حرصت وتحرص حتى اليوم على أن لا تقوم لها
قائمة، ومن أخطاء كارثية في مواجهة المشروع الصهيوني حتى باتت ظروف مواجهته مفقودة
على كل الجبهات المحيطة، بل ومفقودة في كل جبهات داخل فلسطين التاريخية باستثناء جبهة
قطاع غزة، ومن احتراب داخلي على أسس أيديولوجية وطائفية ومذهبية مستمرة لم تتوقف.
هذا في
المشهدِ العام للدول والكيانات السياسية، لكن الجسر الذي يربط الأفراد بهذه الصورة
العامة يبدو خفياً وغير مرئي، فيعود السؤال المركزي، ماذا يمكن لفردٍ أن يفعل لكسر
دوامة العجز؟ لعل الخطوة الأولى للحل هي بالعودة إلى حقيقة بديهية تبدو بعيدة عن المتناول
اليوم؛ فحياة الإنسان تدور في ثلاثة دوائر أساسية: الأولى هي الدائرة الصغيرة للفرد،
بأفكاره ومشاعره وإنتاجه وعمله وعلاقاته ومحيطه الاجتماعي من قرابةٍ وصداقة وزمالة،
والثانية تتكون من الجماعات الصغيرة كالعائلة والقبيلة وربما الطائفة أو الرابطة المهنية-
سمّ ما شئت، أو الجماعات الكبرى التي يمكن أن تشكل مجتمعا داخل حدود دولة محددة، أو
مجتمعا عابرا للحدود بين عدة كيانات سياسية، أما الثالثة فتتكون من الدولة، الكيان
السياسي ذي النظم والهياكل وعلاقات السلطة والحاكم والمحكوم داخليا، وعلاقات المصالح
والحرب والسلام والمعاهدة والتفاعل فيما بينها، والتي تشكلت منها الصورة العامة التي
رسمناها أعلاه.
الخروج
من العجز: محاولة للاستكشاف
تكمن
حلقة الوصل هنا بين الفرد والدولة –ومن ثم المشهد الدولي- في المستوى الجماعي، في مستوى
الجماعات الصغرى والكبرى والمجتمعات، ومن هنا فإن التأثير الاجتماعي هو مفتاحه نحو
التأثير في المشهد الأكبر، حتى يكتسب وزنا يجعله مرئيا في تلك اللعبة الكبرى.
نعود
إلى المسجد الأقصى، إن أردت كفرد أن تؤثر في المشهد فلا بد من أن توجد أدوات الوساطة
التي تسمح لك بهذا التأثير: التجمعات التي تسمح لك بمشاركة غيرك من أصحاب هذا الهم
في التأثير، سواء اتخذت شكل الرابطة أو الجمعية أو المؤسسة أو النادي الرياضي أو الجماعة
أو الحزب السياسي، أو حتى التيار الواسع المشترك الرؤية الذين يملك أفراده دفع المجتمع
في اتجاهٍ محدد لاتفاق أهدافهم ومحصلة جهودهم وأعمالهم في تحقيقها، بحسب ما يتناسب
مع فهم البيئة المحيطة وتركيبتها.
ليس خفيا
أن خيار التأثير عبر الجماعات بات يشهد عزوفا في ظل الحرب المعلنة من الكيانات السياسية
العربية على عددٍ منها، وفي ظل عجزها عن التجدد وإنتاج اختراقاتٍ وإنجازات تغير في
المشهد العام، مما جعل فكرة محاولة الفرد للقفز إلى التأثير في صناعة المشهد الأكبر
فكرةً شائعة، وفي الحقيقة فإن فرص نجاح الفرد للقفز في هذا المشهد تتفاوت بين عدة احتمالات:
الأول أن يحقق تغييرا محدودا جدا في محيطه الفردي وعلاقاته القريبة، والثانية أن يقفز
إلى مغامرة غير محمية بتجمعٍ بشري فيسهل استفراد اللاعبين الكبار به، أو استخدامهم
له، والثالث أن يجد منافذ محددة للتأثير من خلال قدراتٍ استثنائية، وعلاقاتٍ استثنائية
كذلك، وهذا خيار تنجح فيه القلة القليلة التي تحظى بتلك القدرات والفرص.
يبقى
الطريق الأكثر منطقية هو الانتقال من الفرد إلى التجمعات الصغرى والكبرى للتأثير في
الدولة ومن ثم في المشهد الدولي، وليس بالضرورة أن ينتقل التأثير من الأفراد إلى الجماعة
على شكلٍ تنظيمي نمطي، فالفكرة تملك القدرة على اختراق الحواجز والعقول لتتحول إلى
محرّكٍ للفعل والتأثير بغض النظر عن شكل الرابط بين أصحابها. ولعل المخرج الأقرب إلى
التحقق لكسر دوامة العجز اليوم هو نقل فكرة نصرة القدس والأقصى من فكرة هامشية، تتصدر
المشهد للحظاتٍ وتغيب وينشغل بها أفرادٌ متناثرون، إلى فكرةٍ مركزية مؤثرة تحتل صدارة
الوعي المجتمعي، وتستقطب طاقات الأفراد والجماعات، فلا يمكن الانتقال من العجز إلى
الفعل دون بناءٍ تراكمي، وما لم ينجَز في الأمس من واجبات لا يمكن القفز عنه اليوم
في فزعةٍ طارئة، وإن كان يمكن للهبات والفزعات أن تسمح بتسريع العمل فيه إن وجد من
يبدأ به.
التدخل
في معادلة الأقصى يقتضي وزنا مؤثرا في ميزان القوى، وإعداداً لاكتساب هذا الوزن يتطلب
دراسات وأبحاثاً وفهماً لحقيقة الصراع وقدرات الأطراف التي تخوضه، يتطلب فهماً للمسجد
بذاته ولعناصر مكانته التي يمكن أن يبنى عليها لحمايته، وحركة اجتماعية على مستوى الوعي
والتعليم والإعلام تضعه في صدارة الوعي، ويتطلب دعماً مباشراً ودائماً لمن يخوضون معركة
الصمود والثبات في القدس، ويتطلب أمولاً ومقدراتٍ مادية ترصد لإنجاز ذلك كله، وجهداً
بشرياً ووقتاً حتى يحصل التفاعل المنشود الذي يفتح الطريق للأفراد الحائرين للانتقال
من خانة العجز إلى خانة الفعل.
حين تنعدم
الطرق فالأولوية هي فتح طريق للسالكين، وكسر دوامة العجز تجاه القدس والأقصى يتطلب
اليوم أفرادا استثنائيين، ورؤية ثاقبة معززة بجهدٍ صبور، تصنع المبادرات وتراكم مصادر
التأثير حتى تصل إلى كسرٍ تدريجي لدوامة العجز التي لا تنتهي، ولكل منا الخيار أين
سيكون.
المصدر:
العربي 21