الآن فهمت... لماذا/ وكيف أضاع الفلسطينيون فلسطين!!
بقلم: د. غازي حمد
ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذا العنوان
"الفج"!! مسحته أكثر من مرة وأعدت كتابته، لكن في كل مرة أراجع قراءة
المقال يقفز العنوان الى ذهني ويجرني اليه جرا!!
هذا العنوان داهمني بينما كنت أحضر
اجتماعا لبعض القوى السياسية. كنت استمع إليها وهي تناقش لأكثر من ثلاث ساعات، بدت
أنها عقيمة، تائهة، لا طعم لها ولا لون.
ليست المرة الأولى التي اجلس فيها واخرج
بهذا الانطباع المعكر للمزاج. سبق أن شاركت في حوارات، سواء ثنائية بين فتح وحماس أو
حوارات "وطنية " تجمع الكل .. وحضرت العشرات من المؤتمرات والندوات
وحلقات "العصف الفكري "، لكن هذه المرة طغي علي حزن عميق، وبدأت المشاعر تجتاحني:
ماذا يقول هؤلاء؟ ماذا يصنعون؟ أي وقت يضيعون؟؟، في أي عالم يعيشون؟ فجأة قفز إلى
خاطري بدون استئذان: الآن فهمت لماذا ضاعت فلسطين؟
كان خاطرا مرعبا ومخيفا. لم يعد لدي أدنى
شك بان مثل هذه الجلسات/ النقاشات العقيمة تكررت آلاف المرات، لا شيء سوى مضغ
الكلام واجترار الماضي والهروب من مواجهة الحقائق.
استرجعت في ذهني الكثير من اللقاءات
والاتفاقات والتفاهمات التي وقعت منذ العام 1993 وحتى اتفاق الشاطئ 2014 .. مرت في
لحظة وتلاشت.
بدا لي أننا أضعنا عشرات السنين في
مماحكات وخلافات واختلاف على النصوص لم توصلنا إلا إلى مزيد من الاحتقان والحلول
المجزأة الفاشلة. ولان الأمور بمآلاتها، انظر أين وصلنا في العملية السياسية بعد
عشرين عاما من الفشل والبحث عن منجزات ورقية، وانظر إلى وضع السلطة من حيث ضعفها وهزالها،
وانظر إلى الانقسام السياسي والمجتمعي وكم احتدت بيننا الخلافات حتى صارت تقليدا
لا غنى عنه؟
أي مصيبة صنعها الفلسطينيون بأنفسهم
ولأنفسهم!!
كنا دوما نحمل الأنظمة العربية مسئولية
ضياع فلسطين، وهو امر لا جدال فيه، وكنا أيضا نحمل الأنظمة الغربية على تواطؤها
ودعمها اللامحدود لإسرائيل .. لكن ماذا عن نصيبنا في تحمل المسئولية؟
صحيح أننا – كفلسطينيين – قاتلتا
وجاهدنا وقدمنا نموذجا عظيما في التضحية وصنعنا ثورة بعد ثورة، وانتفاضة بعد انتفاضة،
وطرقنا أبواب الدول وجبنا العواصم بحثا عن التأييد، وصفق لنا الكثيرون في المحافل الدولية،
وحصلنا على اعترافات "نظرية " بالدولة .. لكن أين النتيجة العملية على
ارض الواقع؟ أين هو التمدد الفلسطيني – بعد 65 عاما - مقابل السرطان الاحتلالي؟
أين هي مقومات النصر وحقائق التحرر التي ننثرها في فضاء الشعارات؟؟ أين هو مكمن
الخلل بعد هذه "الجبال " من التضحيات وهذه المساحات الكبرى من الجهد
السياسي؟؟
الغريب انه بعد حرب ضروس امتدت خمسين
يوما (وهي مثار فخر للصمود والبطولة) لم تكن مطالبنا تنم إلا عن غياب الأفق
السياسي والاستراتيجي: فتح معابر وتوسيع مساحة الصيد البحري!!
الغريب أن الكل يعتقد أنه قريب من تحقيق
الهدف: (فتح) تظن أنها قاب قوسين أو أدنى من الدولة، و(حماس) تعتقد أنه ليس بينها
وبين وتحرير فلسطين إلا شراك النعل!! .
بدل أن نحصل الدولة(الوطن) كحق تاريخي
أصبحنا نتوخاه في قرار أممي غير قابل للتطبيق!!
لا يمكن لفلسطين أن تحرر أو تبنى بهذه
الطريقة العفوية المنقوصة البعيدة عن التخطيط العميق والتحضير القوى والعمل الوطني
المشترك والممتد والمتراكم. إنها تتحول إلى مجرد أمنيات لا أكثر. هذا لا يعني أنني
أقلل من قيمة ما يقوم به كل طرف لكن تشتت الاتجاهات وتفرق الجهود سيوصلنا إلى
نتائج عكسية.
** لماذا وكيف ضاعت جهودنا؟
باختصار لان الفلسطينيين فقدوا ركنين من
أركان الوطن: الرؤية الاستراتيجية والإجماع الوطني. ومن ثم تفرقت بهم السبل.
تنقلوا – أو قل تشتتوا- بين مربعات متناقضة استنزفت طاقاتهم وبددت قدراتهم ..
تنقلوا بين الحل الانتقالي والنهائي .. بين السلطة والمقاومة .. بين السلطة
والمنظمة .. بين مشروع الدولة ومشروع التحرر .. بين الاستراتيجية والتكتيك .. بين
الشرعية واللاشرعية، تاهوا بين المصالحة والانقسام....
هذه المعضلة فاقمت من خلافات
الفلسطينيين حتى صاروا نموذجا في احتراف وصناعة الخلاف. فتجدنا نختلف على كل شيء،
من مشروع التحرير / الدولة وحتى جرة الغاز!! وهذه جرجرتنا إلى الغرق في التفاصيل
الصغيرة التي أرهقتنا وحجبت عنا التفكير في القضايا الاستراتيجية.
إن غياب الرؤية الاستراتيجية كارثة
وطنية يتحمل مسئوليتها الجميع.
الرئيس أبو مازن يهرول بين العواصم بحثا
عن تواقيع لدولة (لا توجد على الأرض)، فيما الفصائل تنظر وتترقب من بعيد، بلا مشاركة،
وكأنه مصير يصنع من خلف ظهورهم.
(فتح) تسير في ركاب المفاوضات السياسية
وكأنها قدر محتوم لا فكاك منه، و(حماس) تتشبث بالمقاومة ولا ترى غيرها. لا (حماس)
تنتفع بقوة (فتح) السياسية، ولا (فتح) تنتفع بقوة (حماس) العسكرية المقاومة .. النتيجة:
كيف ينتفع الوطن من خياريهما إذا كانت اليد الواحدة لا تصفق؟؟
حماس تصفق- بيد واحدة- في مهرجاناتها
وتتغنى ببطولاتها وتسمع لذاتها وتنعت الآخر بالسقوط والتنازل، وفتح تصفق – بيد
واحدة- في مجالسها المركزية والثورية وتتلقى تقارير مجللة بالسواد عن حماس
وصنائعها!!
هل حماس تريد فتح ضعيفة موزعة على
تيارات .. وهل تريد فتح حماس معزولة خارج نطاق التردد السياسي؟ معادلة مجبولة على
الفشل والمراهقة السياسية.
بدل أن يتمركز الصراع ضد الاحتلال، تحول
إلى أن يصبح فلسطينيا بامتياز، صراع الخيارات، الذي يراد له أن يبرز من هو الأقدر
على الإثبات أن خياره هو الأفضل وأن خيار الآخر هو الفاشل؟ كم استغرقت منا هذه
المعركة كل هذه السنوات دون أن نحسم من المنتصر في خياراته؟ وهل مطلوب منا أن نفعل
ذلك؟.
الاحتلال استفاد كثيرا من هذه المنازعات،
وحارب كل طرف بما يناسبه. حارب فتح وسلطتها بالمماطلة والخداع وتضييق الخناق عليها
وتحويلها إلى سلطة وظيفية، وحارب حماس بعزلها في غزة واشغالها بالإعمار والحصار،
فأصبح لكل طرف "وجهته " الخاصة وحساباته في الصراع.
اليوم وصلنا إلى مواجهة الحقائق المرة!!
كل شيء متوقف ومعلق/فاشل: مفاوضات، مصالحة، حكومة، وشعب محتار محبط.
** الحل السحري: حكومة وحدة!!!
لم نعد نرى شيئا ناجحا ولا قابلا للتطور
والنجاح اللهم إلا الجلد والتحطيم. حتى الحكومة (الوليدة) التي لم يمض على تشكيلها
أشهر معدودة، سلخنا جلدها (ولعنا أبوها) ونحن نقول إنها فاشلة وعاجزة. " طيب،
أعطوني حكومة واحدة رضي عنها الشعب الفلسطيني منذ العام 94!!
جربنا حكومة فتح فلصق بها الفساد
والترهل الأمني والإداري، وجاءت حكومة الوحدة الوطنية فلم تلبث أن أعدمت بعد شهرين،
ثم حكومة حماس التي لازمتها الحروب والحصار .. ثم جئنا بحكومة الوفاق (بعد سبع
سنوات من الجدل والحوار) فقلنا عنها هزيلة وعاجزة .. قلنا نهرب إلى الأمام،
واكتشفنا إكسير الحياة السحري " هلموا بنا يا قوم الى حكومة وحدة وطنية فهى
المنقذ "!! .. حتى لو شكلوا حكومة وحدة وطنية فهل ستكون "سوبرمان "
تتفكك على يديها كل العقد؟
أن المصيبة أكبر من قصة حكومة لأنها
تضرب في أعصاب الوطن الممزق.
إننا – كعادتنا - نهرب من فشل إلى فشل
أقسى!!
ثم التفتنا إلى عملية الإعمار – مع
تقديري لكل الانتقادات لها - وبدأنا في سن السكاكين، واصبح الكل يتبارى في إبراز
مواهبه "الكلامية " البليغة، وتسللت إلينا عقلية المؤامرة وبدأنا في
لعنها طعنها والإرجاف بها دون علم ودون طرح بديل عملي.
في كثير من الأحيان نتحول إلى عدميين:
نلعن كل شيء .. نرفض كل شيء .. نتشكك في كل شيء. لا أحد يطرح بديلا واقعيا ولا
تغييرا إيجابيا شموليا. ليست إلا لغة الرفض والشك التي تتلبسنا حتى في أدق تفاصيل حياتنا.
لهذا نحن نفشل ونعيد استنساخ الفشل (نتلذذ بالألم والمظلومية)، نقولبه في أشكال
والوان أخرى. نعود فنشكو ونتذمر ... ثم نشكو ونتذمر، ثم نرقع فشلنا بفشل أكبر. ثم
نعود فنشكو ونتذمر!!
المرهق أن كرة (الفشل) تتدحرج كل يوم من
مربع لآخر!!
من يفشل يجد من يتربص به .. يفرح ويتشمت
به، لا أحد يمد له يد المساعدة لإنقاذه، لا أحد يترفق به، لا أحد يقدم له العون والنصيحة،
لذا يستمر في فشله أكثر فأكثر
لهذا – بعد 6 عقود - ضاعت فلسطين وتوزع
دمها بين القبائل/الفصائل!!
واعذروني إن جاء فهمي متأخرا!!
المصدر: وكالة سما الإخبارية