الأقصى تحت الضرب
بقلم: علي بدوان
"لقد
أسمعت لو ناديت حيا.. ولكن لا حياة لمن تنادي
ونارا
لو نفخت بها أضاءت.. ولكن أنت تنفخ في رماد".
هذا
هو حال مدينة القدس والأقصى، وحال مواطنيها العرب الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين أصحاب
الوطن الأصليين.
فالقدس
تصرخ وتستنجد تحت الضرب والاعتداءات اليومية، فلا داعي ولا مجيب، ولا يد تمتد لنصرتها
ومؤازرة مواطنيها وأبنائها كما تستحق، اللهم إلا بعض الأصوات الخافتة والمتحشرجة التي
تخرج بخجل شديد ودون دعم وإسناد حقيقي.
هذا
بينما يقوم أرفين موسكوفيتش الصهيوني المتطرف اليهودي الأميركي النيويوركي وصاحب العشرات
من نوادي القمار في نيويورك بتمويل عمليات الاستيطان والنهب في القدس منذ سنين طويلة
دون كلل أو ملل، ورعاية عشرات المشاريع التي تستهدف هوية القدس المدينة العربية الإسلامية
والمسيحية، ساكبا كما من الأموال لصالح مجموعات الاستيطان.
الأقصى
يكبر مناشدا العالم بأسره تحت نار الاعتداءات اليومية التي طالت المصلين وعموم أبناء
القدس، والعالم يغيب في سبات عميق، فالقرارات الدولية التي ترفض الضم وترفض تهويد المدينة
غير قادرة على لجم الاحتلال، بل الخشية أن يكون التعامل مع عمليات تهويدها بات أمرا
اعتياديا ومألوفا في عالم لا يعطي لصاحب الحق حقه إلا بكفاح مرير تستخدم فيه كل أدوات
الفعل، بما في ذلك لغة المصالح.
المقدسيون
تعلو أصواتهم كل يوم، حيث يقفون في عين العاصفة وفي الخط الأول دفاعا عن المدينة وأقصاها
ومكانتيها الإسلامية والمسيحية، مناشدين منظمة التعاون الإسلامي ولجنة القدس التحرك
الفعلي والجاد من أجل القدس ودعم صمود مواطنيها، ومن أجل التحرك الفعال في العالم الإسلامي
وفي كل الميادين الدولية، لتحويل الشعارات والآمال إلى أفعال على الأرض بدلا من المراوحة
بحدود التصريحات الإعلامية التي لا يتبعها فعل ملموس كما جرت العادة، فلا صندوق دعم
القدس بحاضر، ولا حراك دبلوماسيا عربيا وإسلاميا في المجتمع الدولي بفاعل.
لقد
فرضت انتفاضة الأقصى نفسها على الحال الرسمية العربية التي تداعت لتعزيز صمود المنتفضين
في الأراضي الفلسطينية، حيث عقدت في حينها القمة العربية يومي 21 و22 أكتوبر/تشرين
الأول 2000، وكان من أهم قراراتها إنشاء صندوقين، سمي الأول صندوق الأقصى بإسهام الدول
العربية لتمويله بواقع ثمانمئة مليون دولار تخصص لتمويل مشاريع فلسطينية تحافظ على
الهويتين العربية والإسلامية في القدس، والصندوق الآخر هو صندوق دعم الانتفاضة بواقع
مئتي مليون دولار، وذلك لتعويض الفلسطينيين عن خسائرهم الاقتصادية خلال فترة الانتفاضة.
ولكن
أين أصبح صندوق القدس، وصندوق الانتفاضة، وأين أصبحت الوعود العربية والقرارات التي
أطلقتها القمم الماضية بالنسبة لدعم وإسناد صمود المقدسيين وأبناء فلسطين بشكل عام؟
لقد
أدى صلاة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك الفائت نحو ربع مليون مواطن فلسطيني
استطاعوا أن يصلوا للمسجد وباحاته على الرغم من كل الأساليب التي عمدت إليها سلطات
الاحتلال للتخفيف من أعداد المصلين القادمين للقدس من مختلف مناطق الضفة الغربية وحتى
من مناطق فلسطين المحتلة عام 1948.
ومن
تلك الأساليب منع الرجال دون الخمسين عاما من دخول الحرم، واشتراط دخول النساء من سن
(16-30) عاما لأداء الصلاة في الأقصى أيام الجمعة بالحصول على تصريح مسبق، فيما ينطبق
هذا الإجراء على الرجال من سن ثلاثين-خمسين عاما، واتخاذ سلسلة من القيود الجديدة على
مدينة القدس المحتلة وإجراءات التحرك من الضفة الغربية وإليها.
هذا
فضلا عن إغلاق معبر قلنديا الواصل بين مناطق الضفة الغربية، وهو معبر استحدثته سلطات
الاحتلال بعد ضمها الجائر لمدينة القدس إثر احتلالها الكامل للمدينة في يونيو/حزيران
1967، وهو معبر أشبه بـ"غيتوهات" النازية، حيث يمر المواطنون الفلسطينيون
عبر مسار حديدي ضيق جدا قبل الوصول إلى البوابة الأولى ومنها إلى الثانية والثالثة،
وهناك تفحص بطاقات الهوية والتصاريح الخاصة بكل شخص قبل السماح له بالعبور من عدمه.
وفي
حال نجح الفلسطيني في المرور تبدأ المرحلة الثانية من الرحلة، وهي الحصول على مقعد
في حافلة خصصتها سلطات الاحتلال لتقل المصلين، أو حافلة عادية من تلك المخصصة للركاب
بين مدينتي بيت لحم والقدس المحتلة.
لقد
كانت صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان صلاة مباركة لعموم الناس في فلسطين، كما كانت واحدة
من جولات التحدي الذي أبداه الفلسطينيون في الدفاع عن المدينة وأقصاها، وفي مواجهة
الاحتلال وعصابات المستوطنين ومجموعات اليهود المتشددين الذين يقومون بين حين وآخر
بافتعال المزيد من أعمال الاعتداء والعنف اليومي تجاه المقدسيين، ويحاولون بشكل دائم
دخول باحات المسجد.
وفي
الـ26 من يوليو/تموز الجاري دخلت مجموعات منهم بحماية سلطات الاحتلال وبقيادة الوزير
أوري أرئيل باحات المسجد، فتم تكسير العديد من أبواب الخشبية، واقتلاع بعض السجاجيد،
عدا عن اقتحام المسجد والاعتداء على المصلين، وإطلاق قنابل الغاز المدمع والقنابل الصوتية
لتفريق من هب من أبناء المدينة للدفاع عن المسجد، فكان هجوم قوات الاحتلال واقتحامها
المسجد الأقصى عملا همجيا ومخالفا لكل المواثيق الدولية.
ومن
المعروف أن مجموعات المستوطنين والمتشددين من المجموعات اليهودية المتطرفة وحتى غير
المتطرفة تستغل سماح "الشرطة الإسرائيلية" لها بدخول المسجد ومعها السياح
الأجانب لزيارة الحرم القدسي الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة عبر باب المغاربة.
هذا
فضلا عن قيام حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة بإخراج العديد من المشاريع الموضوعة في
الأدراج، والهادفة لتوسيع عمليات الهدم والتهجير "الإسرائيلية" في مدينة
القدس ومحيطها من أجل تحويلها لمدينة يهودية خالصة في سياق المشاريع الهادفة إلى إحداث
الانقلاب الديمغرافي لصالح أغلبية يهودية على حساب الوجود العربي الإسلامي والمسيحي،
بل وإفراغ القدس الشرقية تماما من العرب حتى عام 2020، وبناء ما تسميه مصادر الاحتلال
الجدار الديمغرافي اليهودي.
إن
قضية القدس تمس الإنسان والأرض والعقيدة عند المسلمين والمسيحيين، والصراع عليها أبعد
من صراع حدود ترسمها التصورات "الإسرائيلية"، وعلى ضوء واقعها الحالي وتواصل
الاعتداءات على الأقصى من قبل مجموعات المستوطنين والمتطرفين تحت رعاية سلطات الاحتلال،
ووقوع عمليات القضم المتتالي لأراضيها لمصلحة التوسع الاستيطاني التهويدي الجائر فإن
مهمات فلسطينية وعربية وإسلامية عاجلة تتطلب التحرك من أجل إنقاذ المدينة المقدسة على
كل المستويات بدءا من تنشيط صندوق القدس لدعم المدينة ومؤسساتها الفلسطينية وعموم مواطنيها،
والتحرك الفعال داخل الأطر الدولية من أجل إنقاذ الأقصى والإرث الحضاري الكبير الإسلامي
والمسيحي في المدينة، وحمايتها من سرطان التهويد الزاحف.
كما
أن هناك ضرورة لتدخل منظمة المؤتمر الإسلامي والدول العربية والإسلامية بالشكل المطلوب
والمرتجى، ومغادرة لغة البيانات اللفظية لوقف هذا الجنون "الإسرائيلي الصهيوني"
بحق الأقصى والمقدسات الإسلامية، وضرورة تنشيط التحالف بين عشرات المؤسسات المدنية
العاملة في مجتمعات الأسرة الدولية لأجل نصرة فلسطين والأقصى المبارك بشكل خاص، فهو
والقدس الآن في خطر حقيقي لأن هناك نية مبيتة للنيل منه من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة.
من
الضروري أيضا تكثيف حملات توعية فلسطينية للمواطنين المقدسيين للحيلولة دون انتشار
ذلك، حيث سيكون له أثر خطير جدا على مستقبل مدينة القدس وهويتيها العربية والإسلامية.
المصدر:
الجزيرة نت