التنمية الفلسطينية بين القائم والمطلوب
بقلم: علي جرادات
ليس بالسياسة وحدها تعيش المجتمعات. والمجتمع
الفلسطيني، (وإن بخصوصيته)، هو ككل المجتمعات لا ينظمه، إيجاباً أو سلباً، الحيز السياسي،
فقط، بل الحيز المدني، أيضاً، ما يستدعي الإقرار بأهمية الحيزين وتداخلهما وتأثيرهما
معاً في حياته واشتباكه المعقد والمفتوح مع الاحتلال الصهيوني الاستيطاني الإقصائي
الإحلالي. وبداهة أن المجتمع الفلسطيني، كغيره من المجتمعات، لا تستطيع قوة سياسية
واحدة، ولا يحق لها أصلاً، أن تفرض منطقها على عقول واختيارات وحياة الناس فيه. وهذا
يفرض الاعتراف بتعددية السياسات الاقتصادية الاجتماعية داخله.
لذلك، بعيداً عن التقليل من أهمية الحيز السياسي،
إنما دون تضخيم زائد، ودون تناسٍ واعٍ أو جاهل
لأهمية الحيز المدني، وبقدر ما يتعلق الأمر بالضفة وقطاع غزة، حيث تدير «سلطة فلسطينية»،
بل «سلطتان»، حيزاً مدنياً متشعباً يشمل التعليم والصحة والقضاء والتنمية الاقتصادية،
فإن السوق الفلسطينية ما زال يطبعها إرث سياسات الاحتلال واتفاق أوسلو الذي يحرمها
من الاستثمار في المنطقة (ج) التي تعادل 60% من الضفة، علاوة على «القدس الشرقية» التي
كانت مساحتها 3% في العهد الأردني، بينما صارت 17% في زمن الاحتلال، مثلما يحرمها اتفاق
باريس الاقتصادي من التبادل التجاري الحر مع العالم.
وكل ذلك من دون أن ننسى، أنه فيما استثنى وفد
حكومة نتنياهو الليكودي السابقة لآخر جولة من المفاوضات منطقة الاغوار، (قرابة ثلث
مساحة الضفة)، من البحث، فإن برنامج حزب الليكود الصهيوني عموماً صريح في التمسك ب«سيادة
واحدة من البحر إلى النهر». وهذا حال الأحزاب الصهيونية المتطرفة والدينية المحافظة
المتحالفة معه في حكومة جديدة هي الثالثة على التوالي والرابعة بالإجمال. ما يعني أن
الفلسطينيين، بمن فيهم فلسطينيو الضفة والقطاع، ليسوا على «مرمى حجر» من الاستقلال
الوطني، طالما استمر ميزان القوى الراهن بالمعنى الشامل للكلمة. وهذا يوجب بالتالي
الجمع بين النضال التحرري والمشروع التنموي للصمود والمقاومة والتخلص من أوهام أن ثمة
حلاً سياسياً قريباً، سواء كان وطنياً يعيد ولو الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية،
أو استسلامياً تسعى لفرضه حكومة الاحتلال والاستيطان والتهويد الجديدة، ولا تقبل به
أية قيادة فلسطينية، براغماتية معتدلة كانت أو مبدئية متشددة.
ومنعاً لكل التباس، يجدر المسارعة بالقول: ليس
ثمة إمكانية لتنمية وطنية مستقلة شاملة ومستدامة إلا بزوال الاحتلال، لكن هذا الاستخلاص
الصحيح لا يعفي من البحث في أن النموذج التنموي ل«السلطة الفلسطينية» الذي لم يتأسس
على بناء سياسة اقتصادية اجتماعية تعزز الصمود وتدعم المقاومة، قد فشل فشلاً ذريعاً
في أن يخترق، بقدر المستطاع، وبما يتطلب من مواجهة، سياسات الاحتلال، لتحقق الهدفين
الأساسييْن للتنمية: تخفيض نسبة البطالة وتخفيض نسبة الفقر. فمعطيات الدراسات الأكاديمية
المتخصصة ومركز الإحصاء الفلسطيني تشير إلى أن الوضعية الاقتصادية لمناطق 67 بعد
20 عاماً على قيام «السلطة الفلسطينية»، تعاني أزمة بنيوية، يعكسها عجز دائم في موازنة
السلطة، وارتهان كبير للمساعدات الخارجية، واختلال مريع في الميزان التجاري، وإلحاق
السوق الفلسطينية التي لا يصل إنتاجها 12 مليار دولار بالسوق «الإسرائيلية» التي تجاوز
إنتاجها 200 مليار دولار سنوياً، ومديونية على السلطة والشعب معاً دون حيوية كافية
للسداد، ونهب نحو 80% من الثروة المائية (60% حسب صندوق النقد الدولي)، وتوسيع قطاع
الخدمات والاستيراد الخارجي على حساب القطاع الإنتاجي (صناعة، زراعة)، ومعدل بطالة
يناهز 25% ونحو 50% في أوساط الشباب، أغلبهم من خريجي الجامعات، ومعدل فقر يتخطى
50%، علماً أن النسبتين أعلى في قطاع غزة.
بل ولولا القطاع الحكومي الذي يستوعب نحو ثلث
قوة العمل لتضاعف الفقر وتضاعفت البطالة في أوساط فلسطينيي الضفة والقطاع الذين زاد
عددهم، (حسب إحصاء عام 2014 الماضي)، من 2.3 مليون قبل توقيع اتفاق أوسلو إلى نحو
5 ملايين (3 ملايين ويزيد في الضفة ومليونين تقريباً في غزة)، بزيادة طبيعية سنوية
تتراوح بين 5-6%، وبقوة عمل ناشطة تصل المليون، أي (20%) من السكان، وأقل ب 10-12%
من نسبتها في الأردن ومصر على التوالي. وحسب معطيات مركز الإحصاء الفلسطيني للعام
2012 هناك 45% يعملون في القطاع الحكومي و46% في القطاع الخاص و9% في القطاع غير الحكومي.
وهذه أرقام تحتاج إلى تدقيق، ذلك أنها تتجاهل توظيفات «سلطة» «حماس» في قطاع غزة (هنا
ثمة رقمان 42 ألفاً أو 52 ألفاً)، علاوة على أكثر من 40 ألفاً مقاتل ل«حماس» و«الجهاد».
ما يعني أن القوام الذي يتلقى راتباً شهرياً من السلطة أو الفصائل يناهز 300 ألف وليس
170 بحسابات السلطة الفلسطينية، فيما هناك 100 ألف عائلة تصرف لها وزارة الشؤون الاجتماعية
مساعدة شهرية.
اتصالاً بذلك فالمطلوب نموذج تنموي يراعي خصائص
الوضع الفلسطيني، ويستهدف توسيع المنتج الوطني وصولاً إلى التخلص المتدرج من وضعية
الارتباط والالحاق، كهدف يلبيه التركيز على القطاع الإنتاجي، (صناعة وزراعة)، الذي
يكفل تخفيض البطالة والفقر، علماً أن حجم الزراعة في الدخل الوطني الذي بالكاد يصل
إلى 6%، (مع نسبة مشابهة للاقتصاد المنزلي غير الرسمي)، كان 69% قبل عام 1967، وأن
الصناعة المتوسطة التي تضم بين 50-100 عامل وأكثر على حالها: أقل من 20 مصنعاً، بينما
وقع النمو في المصانع والورش الصغيرة التي يضم 92% منها 1-9 فقط من العمال. ما يعني
أن تدهور قطاع الزراعة في مجتمع الضفة وقطاع غزة لم يكن لمصلحة التحول إلى مجتمع صناعي،
وأن قطاع الخدمات والبناء هو القاعدة الأوسع، بينما تحتل المؤسسة البنكية التي تبلغ
ودائعها (5 مليارات دولار)، ومعها شريحة الوسطاء التجاريين لتسويق السلع الأجنبية مركز
ثقل البنية الاقتصادية. ويمكن أن نلحظ بيسر وزن هؤلاء الوسطاء التجاريين عندما ننتبه
إلى حجم الواردات السنوية يصل إلى مليار دولار
من السوق «الإسرائيلية» وعبرها، بينما حجم الصادرات بالكاد يصل إلى مليار دولار، أي
بعجز تجاري 400% الأمر الذي لا تشاطر «السلطة الفلسطينية» فيه أية دولة أخرى.
المصدر: الخليج