الحادثة التي
كشفت الزيف
بقلم: لمى خاطر
ماذا يعني أن تعتقل سلطة
مصر أربعة شباب من مجاهدي غزة، ثم لا تكون هناك ردود فعل على الجريمة تناسب قيمة هؤلاء
الشباب والرمزية التي يمثلونها؟!، وماذا يعني ألا تكترث الفصائل الفلسطينية بالأمر
وكأنه مجرد إشكالية بين مصر وحماس؟!، وماذا لو أن ما جرى كان معاكسًا، أي اختطاف بضعة
جنود مصريين في غزة؟!، هل كانت موجة التفاعل مع الحدث ستكون باهتة كحالها مع هذه الحادثة؟!،
وماذا يعني امتناع النظام المصري عن الإقرار بالجريمة حتى الآن، وكأن هناك نهاية درامية
ما مرسومة للحادثة تشابه ما عهدنا رؤيته وسماعه من مسرحيات بائسة ورديئة الإخراج يقارفها
النظام المصري بلا خجل أو اكتراث بالتبعات؟!
هذه الحادثة بيّنت كيف أن
الموقف من المقاومة في فلسطين _وتحديدًا غزة_ لا يزال أسير لحظته، أي تلك اللحظة الساخنة،
حيث جرائم الاحتلال خلال حروبه وردود المقاومة، وحيث لا يجد كثير من السياسيين ونخب
المجتمع مفرًّا من مسايرة المزاج الشعبي العام، والاضطرار لمباركة فعل المقاومة وتمجيدها،
ولكن دون أن ينسحب ذلك على الاستعداد لتحمل جانب _ولو ضئيلًا_ من ضريبة هذه المقاومة
بتأييدها في أوقات الهدوء، أو الذود عن رجالها، أو تعكير العلاقة مع أعدائها، داخل
المشهد الفلسطيني وخارجه.
كنت أرى منذ سنوات أن مجتمعنا
فقد خصائص المجتمعات المقاومة، التي ترفض الاحتلال والعملاء بالفطرة، وتنحاز وجدانيًّا
وعمليًّا إلى جانب المقاتل، وتؤازره في محنته وتشاركه في حمل قضيته بدعمه الدائم، ثم
تخليّتُ عن هذه الفكرة عشية حرب "العصف المأكول"؛ لأنه بدا من متابعة المشهد
العام أن الإجماع على المقاومة كان غير مسبوق، ولا تشبهه سوى أجواء الانتفاضة الأولى،
إذ كان المجتمع أغلبه مبديًا استعدادًا حقيقيًّا غير مزيف إلى الاشتراك فيها وتحمّل
تبعاتها المختلفة والمساهمة في تأمين أبطالها ومدّ يد العون لهم.
أما الآن مع هذا التراجع
المخجل في الاكتراث بمصير عدد من الشباب المجاهدين، ولو بأضعف الإيمان، أي المساندة
المعنوية؛ فيبدو أننا بالفعل قد فقدنا خصائص المجتمعات المقاومة، ويبدو أن الدجل الإعلامي
سيّد الموقف على كلّ المستويات.
قد يقول قائل: "إن
انشغال الناس بهمومها اليومية يحول دون اهتمامها بمجريات هذه القضية ومثيلاتها"،
لكن هذا التبرير يمكن أن يكون مقبولًا، لو أن الناس والنخب لا تخصص ساعات من اهتمامها
ومتابعاتها لتوافه القضايا، ولو أن الأولويات لم تختلط لديها إلى درجة الانزياح الجماعي
السخيف خلف أحداث وشؤون سطحية أو غير مفصلية.
بطبيعة الحال يبدو من العبث
هنا مطالبة السلطة الفلسطينية باتخاذ إجراء رسمي _ولو كلاميًّا_ تجاه الحادثة، في حين
هذه السلطة شريك أساسي في حصار غزة وتجويعها وإيذائها، وفي اختراع وتسعير المعارك الجانبية
التي ينقاد لها كثيرون بوعي أو دون وعي على حساب القضايا الأساسية في المشهد الفلسطيني،
ولكن الطبيعي أن نتوقع دورًا لافتًا لبقية الفصائل ولنخب المجتمع ومفكريه وسياسييه،
بل حتى عامة الناس الذين يتفاعلون بدرجة كبيرة مع المقاومة في لحظاتها الساخنة، ومع
شهدائها حين يكون دمهم مرئيًّا في إطار مدّة الحرب، لكن يغيب الاهتمام برموزها حين
يواجهون أشكالًا أخرى من المحن غير المرئية، حتى لو كان حجم فظاعتها متخيّلًا.
الحال أن كثيرين يتجنبون
الحديث في القضايا الجالبة للمتاعب أو المثيرة لشبهة التصنيف على هذا الفصيل أو ذاك،
والحال أن منصّات التواصل الاجتماعي لا تشجع على التفاعل إلا مع ما يحصد الإعجاب والثناء،
ولذلك قضية المقاومة لا تصبح من هذا النوع إلا خلال الحروب وحين تتكلّم بطولاتها فينشغل
الشارع بها، أما حينما تنقضي المعارك فإن الألق الشعبي لها يخفت ومعه الاكتراث الجمعي
بها، ولذلك إن جانبًا كبيرًا من الجمهور يعفي نفسه من التفكير بكيفية تطور المقاومة
واحتياجاتها، ومقوّمات استمرارها ومتطلّبات صمودها وصعودها.
لاشك أنه ليست هذه كل مظاهر
الزيف التي تفتك بمجتمعاتنا، وخصوصًا نخبها المشهورة، لكنها مثال على اختلاط الأولويات
وتحوّل الاهتمامات من جوهر القضية إلى قشورها، وعلى أن التناقض مع الذات والضمير والتغافل
عن الواجب باتا مرضًا اجتماعيًّا مزمنًا، تستبطن السياسة حينًا، وهوى النفس أو أحقادها
حينًا ثانيًا، والاستعداد الخفيّ للانخراط في مؤامرة على الذات حينًا آخر.
المصدر: فلسطين أون لاين