الحداثة
المعكوسة في الصّورة الفلسطينيّة
بقلم:
محمود عمر *
أدرك
الفلسطينيون في وقت مبكر أهميّة «الصورة»، واستشعروا إمكانيّة أن تقف هذه الأخيرة
في صفِّهم. كان الفَهم الفلسطينيُّ الأول للصورة، حاله حال الفهم الأوّل للكلمة
والبندقيّة، فهماً مادياً بامتياز: الصّورة أداة من أدوات إنتاج الحقيقة. تطوّر
هذا الفهم على مدار سنوات الثورة الفلسطينيّة وخضع لعمليّات نقد تراكميّة حرّة حتى
صار أقرب إلى ما قالته الناقدة الأميركيّة سوزان سونتاج: ليست الصّورة أداة إنتاج
للحقيقة، بل أداة إضفاء طابع حقيقيّ على الأشياء.
«والبحر
صورتنا»
مثلما
أضفى الله على الإنسان طابعاً حقيقياً إذ جعله على صورته، حاول الفلسطينيون مع
انطلاق ثورتهم إطفاء طابع حقيقي على كلّ ما أنتجوه ونتج منهم، على كلّ ما فقدوه
وسقط منهم: فلسطين، المخيّم، عمّان وبيروت التي ضاع أثناء الخروج منها القسم
الأكبر من الأرشيف وانقطع على شاطئها الخطّ الزمني للحكاية الفلسطينيّة. فُقدت في
بيروت كميات مهولة من المواد البصريّة والمكتوبة تحت القصف، أو ذهبت بأيادي
الكوماندوز إلى إسرائيل التي سرعان ما وضعت كلَّ ما وصل إليها خارج التّاريخ. لكنّ
الضياع لم يكن ضياعاً مطلقاً.
استطاع
فنّانون فلسطينيون وعرب وأجانب إنقاذ بعض نتاج تلك الحقبة الزمنيّة وطاروا به إلى
جهات الأرض الأربع. وعلى الرّغم من أن الاستسلام الفلسطينيّ الرسمي في أوسلو قد
وقف حائلاً دون سرعة الاشتغال على ما لم يدمّر أو تسرقه إسرائيل، بما يمكِّن من
إعادة تملّك الخط الزمنيّ للصورة الفلسطينيّة، إلّا أنّ بوادر معطوفة على تلك
الضرورة قد بدأت تخرج إلى العلن، لا سيّما أنّ أوسلو وما فرضته من رجعيّة فكريّة
على العقل الجمعي الفلسطينيّ قد وصلت إلى حالة مطْبقة من الفشل السكونيّ.
«والبحر
يسمع...»
عكفت
مؤسسة الأفلام الفلسطينيّة منذ مدّة على مهمّة تشتبك بشكل مباشر مع الصّورة
الفلسطينيّة. أطلقت المؤسسة مشروعاً يختصّ بالبحث عن الأفلام الناجية من تراجيديا
الخروج من بيروت، والحصول عليها بغية حفظها وإعادة ترجمتها وتحويلها إلى صيغة
رقميّة لإعادة إكسابها ميّزتها الوجوديّة الأهم: أن تكون أفلاماً قابلة للعرض بشكل
جماهيري. ظهرت أولى نتائج هذا المشروع مع إعلان المؤسسة عن انطلاق فعاليّة «العالم
معنا» في لندن، التي تستمرّ من 16 أيار/مايو إلى 14 حزيران/يونيو، وهي ستعيد
اكتشاف أكثر من ثلاثين فيلما أُنتجت من مواضع ومسافات مختلفة من الثورة
الفلسطينيّة في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي.
ستعرض
من خلال الفعالية أفلام من إنتاج «وحدة أفلام فلسطين» التي تأسست عام 1970 وقامت
على مدار سِنِيِّ عملها بإنتاج أكثر من 15 فيلما بين المتوسّط والقصير. ستشمل
الفعالية أيضا أعمالاً لمخرجين عرب وأجانب اشتبكوا فنيا مع الثورة الفلسطينيّة،
مثل المخرج العراقي قيس الزبيدي، واللبنانيّة نبيهة لطفي، والايطالي لويجي بيرلي،
والفرنسي جان لود غودار الذي أخرج فيلم «هنا وهناك» عام 1974. لا تكمن أهميّة
وقيمة هذه الأعمال في كمِّها أو طابعها التوثيقيّ فحسب، بل في كَيفها وسمتها
الفنيّة أيضاً. فهي تطرح تساؤلات متعلّقة بالمقاومة الفنيّة والحداثة بمعنييهما
العام، كما تتيح فرصة حقيقيّة لتسليط الضوء على جانب مهم ومغبون من الثورة
الفلسطينيّة، المتعلّق بأنّها كانت ـ على ما كان فيها من علّات ـ حاضنة أساسيّة
للفنّ العربيّ ومحطّة إنتاج وتوزيع رئيسة للصّورة والمعنى.
«اسحب
ظلالك من بلاط الحاكم»
أوّل
ما يستنتجه المشاهد لهذه الأعمال، وما تقدّمه من لمحة عن الظروف الاجتماعيّة التي
جعلها ممكنة، هو انّها تتسم بكثير من الحداثة الثوريّة التي نهجس باحثين عنها.
إنّها أفلام خرجت من رحم المشروع الجمعيّ والتجربة التي تَلاقح فيها الشخصيّ مع
العام. أفلام تصوّر معاناة الفلسطينيين وشتاتهم لكنّها لا تثبِّت الفلسطينيّ في
حيّز الضحيّة. في هذه الأفلام، يظهر الفلسطينيّ باعتباره حالة رفض لإسرائيل وأنظمة
القهر العربيّة، ولكنه يظهر أيضا في حالة ضجر خلّاقة من ضحويِّته ومحاولات تقديمها
على أنها سرديّته الوحيدة.
في
فيلم «الزيارة» (1970) يظهر الشوط التقدميّ الطويل الذي قطعته الفكرة السينمائيّة
في منطقتنا واتساع رقعة تفاعلها مع السينما العالميّة. تذكر الطريقة الوحشيّة التي
يتمازج فيها المشهد بالموسيقى التصويريّة بالمدرسة التعبيريّة الألمانيّة وبأعمال
عمالقة مثل بيرغمان وتاركوفسكي. يحظى المشاهد في فيلم «شهادة أطفال في زمن الحرب»
(1972) بإطلالة على الطابع التجريبيّ الذي وَسم كثيرا من النتاج الفنّي الذي
قدّمته الثورة الفلسطينيّة بشكل مباشر، أو عملت على تثويره من خلال علاقات الدعم
والتوزيع.
في
الفيلم، تقوم الفنانة منى السعودي بتوزيع مئات الأوراق البيضاء وعلب الألوان على
أطفال مخيم البقعة بعد 1967 مباشرة وتطلب منهم أن يرسموا كلّ ما يخطر على بالهم.
يرافقها في المشروع المصوّر هاني جوهريّة الذي استشهد لاحقاً في بيروت. يقوم قيس
الزبيدي بدمج الصور التي أخذها هاني جوهريّة، وهي بالأبيض والأسود، مع صور ملوّنة
أخذها هو بنفسه لما أنتجه الأطفال من لوحات. يخرج الفيلم في صورته النهائيّة
تجريبياً وإبداعياً، يشتبك مع مسألة في غاية الدقّة: أيّها له وقع حقيقيٌ أكثر على
وعي المشاهد، الأبيض والأسود أم الألوان؟
«ذهب
الذين تحبّهم، ذهبوا»
في
وسط مفرّغ من المعرفة كما آلت إليه الحالة الفلسطينيّة، يكون الافتراض المنطقيّ
الأسلم بأنّ الصورة الفلسطينيّة، بوضعها موضع التحريك من خلال السينما، قد تطوّرت
بنيوياً عن الأعمال التي تعرضها فعالية «العالم لنا». لكنّ إقحام الرّاهن
الفلسطينيّ في المعادلة ينسف هذا الافتراض من جذوره. عندما نتحدث عن الأعمال
الفلسطينيّة المرئيّة ونقارنها بما تقدّم عرضه، فإننا نشعر وكأنّ عقارب السّاعة
تسير، بشكل ما، إلى الوراء.
تمكّنت
الثورة الفلسطينيّة، في وضع تاريخيّ دقيق، من أن تقزّم المسافة بين البنية التحتية
والبنية الفوقية، وأن تجعل من كلّ ضحية مؤكدة مقاتلاً محتملاً في مجاله. فرضت
الثورة نفسها على القصّة والرواية والصورة، وكانت خير مثال على التبادليّة التي
تحكم التفاعل بين الموجود الاقتصاديّ والموجود الفكريّ. كانت الثورة في حدّ ذاتها
نظرية اعتنقها الملايين فتحوّلت بذلك إلى قوّة ماديّة مهولة لها القدرة على
الانتاج في المخيّم والمدينة والبلد. مع الخروج من بيروت وتوقيع اتفاقيّة أوسلو،
انتفت الثورة تماماً، وانتفى كلّ ما كانت تمارسه على النتاج الفنّي المتعلِّق
بفلسطين، ودخل المعنى الفلسطيني صحراء التيه.
يمكن
للمرء في معرض حديثه عن الأفلام الفلسطينيّة التي خرجت إلى النور بعد تشكيل السلطة
الفلسطينيّة وبدء ضخّ أموال التمويل الأوروبيّة والأميركيّة، أن يتطرّق إلى أعمال
جيّدة، وأخرى رديئة، لكنّه قطعاً لن يجد أعمالاً ثوريّة بالمعنى السياسيّ
والاجتماعي والثّقافي. عادت عدسات الكاميرات لتصوّر في الفلسطينيين معاناتهم أو
تمارس عليهم أنواعاً مختلفة من الاستشراق والتثبيت داخل الإطار.
يعني
هذا، على سبيل الاستنتاج، أنّ الحداثة معكوسة تماماً في الصّورة الفلسطينيّة. إنّ
الأفلام التي رعتها الثورة وأنتجها مخرجون فلسطينيون وعرب وأجانب بكاميرات 16 ملم
وعالجوها بأقلّ الإمكانيّات (معمل الألوان الوحيد كان في بعلبك) في ستينيات
وسبعينيّات القرن الماضي كانت أكثر حداثة وتقدميّة وجمالاً بكثير من الأفلام التي
تخرج علينا بصور بالغة الوضوح ويصل مخرجوها أحياناً إلى مهرجانات عالميّة. ليس هذا
حكماً عاطفياً بل نقداً يتوخّى الموضوعيّة ويعرف أن عقارب السّاعة لا يمكنها أن
تسير بالمقلوب إلى الأبد.
*
كاتب من فلسطين
المصدر:
السفير