الحركات النسائية الفلسطينية: نضال يتخطى الحدود
بقلم: نيروز أبو حاطوم
يتزامن يوم المرأة هذه السنة مع تغيّرات وتحوّلات جذريّة في العالم العربي، وقد حتّم هذا التزامن على الكثير من الحركات والجمعيات النسوية والنسائية في العالم العربي إعادة ربط النضال الجندري مع النضال السياسي والوطني. في الحيّز الفلسطيني والحركات النسوية الفلسطينية، كان هذا الربط دائماً بمثابة البنية الأساسية أو الأرض الخصبة التي تبلورت عليها هذه الحركات.
كان تأسيس الحركات والمجموعات النسائية في فلسطين (ولاحقاً في المهجر) منذ 1948 (وإلى حد ما قبل هذه السنة وقبل قيام الدولة الإسرائيلية) مترابطاً بالحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والاحتلال، منها الدينية (مسيحياً وإسلامياً) ومنها الشيوعية، العُمالية أوالديموقراطية. ففي الناصرة ومنطقة المثلث والقدس وحيفا، أسست مجموعات نسائية جمعيات خيرية وسياسيّة لدعم العائلات الفلسطينية والنساء الفلسطينيات في التصدي لمشاريع القمع الصهيونية الاستيطانية. نتاج المشاريع الاستيطانية لم تقتصر فقط على تهجير المدن والقرى الفلسطينية وتدميرها، بل على محاولة هدم الطبقات المثقفة المدنيّة والحياة القرويّة المعتمدة على الزراعة والتواصل مع الأرض.
بعد مصادرة دولة إسرائيل لأكثر من تسعين بالمئة من أراضي الفلسطينيين، تحوّلت أغلبية الرجال والنساء الفلسطينيين إلى طبقات عاملة في المؤسسات والشركات الإسرائيلية. مثلاً، دفع فقدان الأرض الكثير من النساء الفلسطينيات إلى العمل الزراعي في أراضيهن المصادرة كعاملاتٍ معدومات الحقوق، أو كعاملات في مصانع التغذية والملابس الإسرائيلية. وكذلك كان مصير الرجال الفلسطينيين الذين اضطروا إلى الانخراط في سوق العمل الصناعي الإسرائيلي، فعملوا في مجال البناء والأعمال الصناعية الصعبة. لذلك، كانت للنقابات والحركات العُمّالية والوطنية الفلسطينية داخل إسرائيل قوة كبيرة في تثبيت الجذور العربية الفلسطينية في البلاد، وردع المخطط الصهيوني في صهر المجتمع الفلسطيني في المؤسسات الإسرائيلية و«أسرلة» الانتماء والهوية الوطنية.
وكان للجمعيات النسوية الفلسطينية داخل إسرائيل دور مهم جداً في كسر الحواجز السياسية والمجتمعية. ففي 1948، تأسست حركة النساء الديموقراطيات بقيادة السيّدة سميرة خوري من الناصرة (1)، وكان عملها سياسياً نسوياً، فشمل تظاهرات في الناصرة ضد الوجود العسكري، ومساعدة اللاجئين من القرى المجاورة للناصرة. وفي فترة السبعينيات والثمانينيات، تأسست مجموعة كبيرة من الجمعيات النسوية والنسائية في مواقع مختلفة في شمال فلسطين 48 ومركزها. وشهدت فترة التسعينيات توسع شامل لتأسيس جمعيات نسوية مع أجندة نسوية سياسية تخاطب كسر حواجز الصمت المجتمعي (كالعنف الأسري، الجنسي أو الجسدي) وحواجز الاحتلال، وشملت حضوراً قوياً للبلدات الفلسطينية المهمشة من المراكز الاقتصادية السياسية كقرى الشمال وقرى النقب، وازدادت الحركات النسائية والنسوية فشملت: نساء ضد العنف، الطفولة، جمعية نيسان، كيان، نساء اللقية، الزهراء، جمعية النهوض بثقافة المرأة العربية في الجنوب، وغيرها (2). واستمرت مأسسة الحركات النسوية في سنوات القرن الحادي والعشرين، لتضم جمعيات تُعنى بمواضيع الهوية الجندرية والجنسية، كمنتدى الجنسانية، أصوات ـــــ نساء مثليات، أو القوس للتعددية الجنسية والجندرية .
اليوم النضال النسوي الفلسطيني داخل إسرائيل يتمحور حول مناهضة النظام الأبوي المجتمعي والنظام الأبوي، الفوقي والعسكري الإسرائيلي. فإهمال الدولة لقضايا المجتمع الفلسطيني واحتياجاته داخل إسرائيل، والتفرقة العنصرية في تطوير البنية التحتية للبلدان العربية، أو لحلّ الأزمات الاقتصادية التي يعيشها المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل أو سياسات هدم البيوت وتهجير العائلات الفقيرة من بيوتها، خلّفت تدهوراً مجتمعياً. فقتل النساء مستمر وغصّات الثأر تعيش في نفوس عائلات مُتعادية. ووصلت الأوضاع إلى إحساس الكثير (وليس الغالبية) من الفلسطينيين في إسرائيل بالدونية والانهزامية وتبعها في كثير من الحالات فقدان الهوية الوطنية وفقدان الإحساس بالانتماء إلى العالم العربي أو الثقة بأنّ الشعب العربي قادر على قيادة نفسه بنفسه. لهذا كان ولا يزال دور الحركات النسائية والنسوية في المجتمع الفلسطيني في إسرائيل مهماً في بناء حيّز مستديم لتعزيز الثقة المجتمعية، الهوية الوطنية ولربط حالات الاضهاد ببعضها وتوفير آليات وسُبل للتصدي لها ومعالجتها. وهذا ما دائماً شعرته في كل مرة زُرت فيها جمعية أو حركة نسوية في فلسطين. شعور التكافؤ المجتمعي النسوي وتراكم تعقيدات الظروف وتدافع الطاقات الجماعية، يطغى على أجواء العمل النسوي الفلسطيني. فهي أجواء رافضة للحدود القامعة على شتى أنواعها في واقع فرض الحدود الجسدية والسياسية بصورة قاسية.
نضال الحركات النسائية الفلسطينية داخل إسرائيل هو نضال مناهض للحدود وكاسر لكثير من الحواجز الإسرائيلية اللامرئية والمرئية العنصرية والاقتصادية والاجتماعية. اليوم تناشد الكثير من الجمعيات النسائية المختلفة الاحتفال بيوم المرأة من خلال التماهي مع الأسيرات الفلسطينيات في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وخاصة مع أسيرة السجن الإداري هناء شلبي، المضربة عن الطعام ثلاثة أسابيع احتجاجاً على السياسات الإسرائيلية العنصرية واللاديموقراطية، وعلى ممارسات نظام السجن الإداري الذي فيه يُحجز الفلسطينيون لفترة غير محددة من الزمن ومن غير حقوق أو تمثيل قانوني.
ليكن يوم المرأة يوم إعادة جمع الطاقات النسوية للعمل اليومي، وعلى مدار كل السنة، لكسر حواجز السجون ورفض حدود سياسات قامعة ولتحطيم الحواجز الأبوية والجندرية.
* باحثة فلسطينية، وطالبة دكتوراه في مجال علم الإنسان في جامعة يورك في كندا
المصدر: الأخبار