القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي

الخطاب الرسمي الفلسطيني في أزمته المتفاقمة

الخطاب الرسمي الفلسطيني في أزمته المتفاقمة

حسام شاكر

عندما يستعمل رأس الرسمية الفلسطينية مصطلحاً دعائياً إسرائيلياً؛ فإنّ أزمة الخطاب الرسمي الفلسطيني تكون قد ذهبت بعيداً في تفاقمها، دون أن يفاجئ ذلك أحداً بعد مسيرة التدحرج الطويلة.

الرسمية الفلسطينية وواقعة "الإغراق"

في واقعة 16 شباط؛ أرسل السيد محمود عبّاس في حضرة وفد إسرائيلي زاره في رام الله، رسالة طمأنة لجمهور الاحتلال، بأنّ قيادته لا تعتزم "إغراق إسرائيل" باللاجئين، مستعملاً مفردة نحتتها الدعاية الإسرائيلية ضد التشبّث الفلسطيني بالعودة.

وعبر سلسلة ممتدّة من تصريحات عبّاس التي تجاوزت حقوقاً فلسطينية؛ تُجسِّد اختياراته اللفظية أزمة الخطاب الرسمي بوضوح. يتراجع الرسميون عن "الخطوط الحمر" خطّاً تلو آخر، فيتجاهلون التاريخ ويتنازلون عن الجغرافيا، مقابل خصم مسلّح بأساطير تاريخية، وهيْمنة على المكان، وحقائق يفرضها على الأرض.

تجسِّد مقولات محمود عبّاس عمق الأزمة التي تعتري الخطاب الرسمي الفلسطيني في زمن التفاوض المديد، فلا زال الرجل وفيّاً لخطابه الاعتذاري الذي يراهن على طمأنة الخصم، المنشغل بإغراق القدس والضفة بغلاة المستوطنين.

تخاطب الرسمية الفلسطينية جمهرة الإسرائيليين وكأنّ شعبها لا يسمع ولا يَلحظ، أو لعلّها تروِّض الفلسطينيين على تقليص توقّعاتهم، استعداداً لحصيلة تفاوضية مُتكتّم على فحواها.

تجربة محمود عبّاس وأطوار الخطاب المأزوم

برز محمود عبّاس في الواجهة سنة 1993 بصفة "مهندس اتفاق أوسلو"، شراكةً في اللقب مع شمعون بيريز. لكنّ عودةً إلى السبعينيات تحيل إلى "أبي مازن"، المُنادي بآراء تراهن على "استغلال تناقضات العدوّ الداخلية".

فقد أنضج عبّاس آراءه التي أثارت جدلاً ثمّ آلت سريعاً إلى وصفة مُعتمدة. وتحت العنوان المثير "الصهيونية بداية ونهاية"، صدر له مثلاً كتاب سنة 1977، ضمّنه تأسيساً لتصوّرات "اختراق" المجتمع الإسرائيلي، في مرحلة دبّت فيها حمّى الحلول المرحلية في منظمة التحرير كما يجسِّدها برنامج "النقاط العشر".

شرح عبّاس تصوّرات "جديدة" في كتابه الذي صدّره الراحل ياسر عرفات بمقدمة تبجيليّة لمن سيصبح رئيس وزرائه ثمّ سيخلفه في الرئاسة. فالصهيونية قائمة على العنصرية الداخلية بين اليهود غربيِّين وشرقيِّين بما أوجد حركات ومنظمات يهودية ساخطة على سياسات الدولة. وتبنّى "أبو مازن" مقولة مدِّ الجسور مع القوى المهمّشة في مجتمع الاحتلال لتعزيز مواقفها وتوسيع التناقضات الداخلية.

وعلى خلفية آراء كهذه ملتبسة بمقاصد شتى؛ انطلقت لقاءات سرِّيّة في عواصم أوروبية مع وجوه إسرائيلية، مثل أوري أفنيري وشارلي بيطون، ثمّ طفت على السطح. وبعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت أخذ خطّ عبّاس ومن معه يتعزّز في تجاوز محظورات الأمس، وباتت الملتقيات حدثاً اعتياداً و"نصراً لدبلوماسية فلسطينية" شجّعت إسرائيليين على تحدِّي قانون يحظر الاتصال بمنظمة التحرير.

لم تكن اللقاءات إيّاها سوى قنطرة لِما بعدها، فسياسة "اختراق المجتمع الإسرائيلي" لم تفجِّر ثورة على الصهيونية؛ بل أفضت إلى لقاءات مع القادة الإسرائيليين أنفسهم وأحدثت انقساماً عميقاً في الساحة الفلسطينية. حدث هذا تحديداً بعد خمس سنوات من انتفاضة فلسطينية، في دار نرويجية فاخرة ضمّت مباحثات لم يعلم بها سوى قلائل من قيادة المنظمة.

الاسترضاء في مواجهة التصلّب

حضرت الرسمية الفلسطينية إلى حديقة الزهور في البيت الأبيض، يوم 13 أيلول 1993؛ مكلّلة بابتسامات وإيماءات ومصافحات ممعنةً في إبداء حسن النوايا إزاء العدوّ، ومتنازلة حتى عن لغة الحقوق والعدالة. وقد أتت مقابلها رسمية إسرائيلية مدجّجة بمقولات الحقّ التاريخي وشعارات التشبّث بالبلاد ورسائل التمسّك بالقدس الأبدية، حتى أعلن رابين يومها أنه آتٍ من "أورشليم، العاصمة القديمة والأبدية للشعب اليهودي".

وكما فعلوا من بعد؛ تحدّث الرسميّون الفلسطينيون يومها عن "المستقبل" متجاهلين ذاكرة شعبهم وحقوقه التاريخية، إزاء استدعاء إسرائيلي لروايات مشبّعة بالزيف أُريد لها رسم حاضر البلاد ومآلاتها. حافظ الرسميون الفلسطينيون على تعهّداتهم بمكافحة "الإرهاب"، وسمعوا تقديساً متكرِّراً لمقولة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن أمنها".

لم يَكلّ قادة الاحتلال على تنوّع ألوانهم السياسية، عن تصعيد شروطهم وتغليظ خطوطهم الحمر، فهو نهجهم في جولات التفاوض؛ منذ إسحق شامير الذي خاطب "الوفد الأردني الفلسطيني المشترك" وجموع العرب والعالم في مدريد سنة 1991 بلغة مسدّدة بعناية: "على مدى آلاف السنين قال شعبنا في كلّ فرصة على إثر شاعر المزامير: لن أنساك يا أورشليم، وعلى مدى آلاف السنين تمنّيناً لبعضنا بعضاً أن نكون في أورشليم".

إنه منطق الاحتلال، إذ يتشبّث بالرغيف كاملاً ليتنازل في نهاية المطاف عن فتات منه بأثمان باهظة، في مواجهة منطق من يتنازلون مُسبقاً عن حقوق تاريخية استجداء لقبولهم شركاء التفاوض على ذلك الفتات.

ولم تكن "التنازلات المؤلمة" التي تحدّث عنها مسؤولون إسرائيليون سوى خطوات شكلية لا تمسّ واقع الاحتلال ولا تأتي على مصالحه، بغية استدرار أثمانٍ مقبوضة سلفاً من رعاة المباحثات، ومن الطرف الفلسطيني الذي ذهب بعيداً في استحقاق "التنسيق الأمني" مع الاحتلال.

انعطافات الخطاب الرسمي بين عهديْن

لجأ اللاعبون الفلسطينيون إلى لغة غير محدّدة الدلالة في مواجهة استعلاء الخطاب الإسرائيلي. تميّز الراحل عرفات بمقولات تراعي السقوف الواطئة التي فرضتها شروط التفاوض، لكنه لم يبخل بإيحاءات رمزية تداعب آمال شعبه.

وقد تحاشى عرفات شخصياً الاقتراب من حقّ العودة، حتى عندما صالت المبادرات وجالت من مرؤوسين يتحكّم بحركاتهم وسكناتهم، كان منهم محمود عبّاس يومها. مضى بعضهم في التنازل العمليّ عن حقّوق اللاجئين، كما فعلوا في اتفاق جنيف (2002)، لكنّ عرفات أبقى على مسافة شخصية حذرة من تلك القنوات الخلفية. وفي شأن القدس، استمرّ التفاوض على أجزائها الشرقية المبعثرة، لكنّ عرفات كان يواصل هتافه في رام الله: "للقدس رايحين، شهداء بالملايين".

لقد تنازلت الرسمية الفلسطينية ابتداءً عن الإطار العام للقضية، وأعادت تعريفها من قضية تحرّر وطني ممتدّة إلى مسألة تخضع لعملية تفاوضية. تقلّصت فلسطين في الرواية الرسمية، وانتزع الاحتلال اعترافات ممهورة بالتوقيعات، بأحقيّة وجوده على أرض اغتصبها بالقوّة، دون أن يرتوي ظمأه. وتحوّلت جولات التفاوض إلى تزجية للوقت على حساب الأرض الفلسطينية، ولم تكفّ العربة الرسمية عن التدهور، فألغى "المجلس الوطني" في سنة 1998 الوثيقة المرجعية للخطاب الفلسطيني معطِّلاً بنود "الميثاق" بلا مقابل.

أرسل الراحل عرفات إشارات الاستدراك متأخِّراً؛ بعد أن دخلت القضية قفصها. لم يحصل الاحتلال على ما توقّعه في "كامب ديفيد" صيف 2000 إذ لم يوقِّع "الختيار" يومها، ومن المرجّح أنه اختار تسخين الميدان لتحسين الشروط التفاوضية أو لإعادة رسم المشهد.

تدحرجت عربة التسوية إلى وادٍ سحيق دون أن تثني محمود عبّاس عن آرائه، ولم يخضع أيّ مسؤول فلسطيني للمساءلة عن دوره في هندسة الكارثة. استمرّ عبّاس مستلهماً المنطق ذاته، ساعياً للتفاوض على أساس المعروض إسرائيلياً وادِّخار مباحثات التيه.

ومن المفارقات أنّ نهج استغلال التناقضات الداخلية في مجتمع الاحتلال واصل ارتداده عكسياً إلى الملعب الفلسطيني. فقد أصرّ جورج بوش سنة 2002 على "تغيير قواعد اللعبة" مع السلطة الفلسطينية، مستصحباً الرغبات الإسرائيلية. تكثفت الضغوط الرامية لاختراق الساحة الفلسطينية وتوسيع الهوة الداخلية لصالح "رئيس وزراء معتدل" بدلاً من عرفات، الذي تحوّل بين عشيّة وضحاها إلى زعيم "مثير للمتاعب" و"غير جدير بالثقة".

صعد محمود عبّاس ليمسك بالزمام، فافترقت الرسمية الفلسطينية إلى خطابيْن اثنيْن؛ بين عرفات الذي يرمِّم رمزيّته النضالية داخل المقاطعة المُحاصَرة، وعبّاس الذي يُعبِّر بإفراط عن "واقعية" تبدأ من نهاية الشوط وتسأم هتافات الاستشهاد على طريق القدس.

تولّى عبّاس أول رئاسة وزراء في السلطة بعد ضغوط أمريكية باستحداث المنصب، وأظهرت واشنطن ترحيبها الجارف بالوجه "الجديد" الذي تمّ تقديمه على حساب "أبي عمار" المُحاصر في مقاطعة محطّمة، فتمّ استقباله بحفاوة في شرم الشيخ والعقبة؛ وفي مكتب شارون ذاته.

فبُعيْد قمّة شرم الشيخ "العربية الأمريكية" التي شارك فيها عبّاس بصفة رئيس وزراء؛ اجتمع مع جورج بوش وآريئيل شارون في العقبة في حزيران 2003، لإطلاق "خريطة الطريق". لم يتأخّر بوش في توعّد مقاومة الفلسطينيين والحديث عن "دولة يهودية"، ولم يتردّد عبّاس في مهاجمة "الإرهاب" و"عسكرة الانتفاضة"، واستدعى "مظالم اليهود عبر التاريخ" متناسياً نكبة شعبه ومعاناته تحت الاحتلال.

تحدّث عبّاس يومها عن ضرورة إنهاء معاناة اليهود عبر العصور، تكفيراً عن كتاب ألّفه قبل عقدين من ذلك عن رواية أفران الغاز في معسكرات التركيز والتعاون الصهيوني- النازي. فالإشارة المحشورة عنوة إلى "معاناة اليهود" وليس الفلسطينيين، أتت تملّصاً من ضغوط طالبته بالاعتذار عن "إنكار المحرقة".

لم تخطئ التوقّعات؛ فلم يعمِّر عبّاس في رئاسة الوزراء أكثر من مائة يوم، فاستقال تحت وطأة الضغوط الداخلية. لكنّه عاد ليرأس الهرم الفلسطيني بعد أن سرت السموم الغامضة في جسد قيادة رمزيّة أثقلتها الأعباء.

تكييف الوعي الفلسطيني استعداداً للمسكوت عنه

مع رحيل زعامة عرفات؛ انقشعت مقولات وشعارات مثّلت قصبة التنفّس لخطاب رسمي مأزوم ومُرتَبِك.

لم يوقف الراحل عرفات، حتى في أوجّ التفاوض، شعارات استعادة القدس وقرب "رفع العلم الفلسطيني على مساجدها وكنائسها"، مستحضراً رمزيّات تتفاعل بصفة فضفاضة مع التطلّعات الفلسطينية كما في اللافتة الشهيرة "لن يكتمل حلمي بدونك يا قدس". لكنّ واقعية عبّاس تمنعه من التبشير بحلم لا يحقِّقه التفاوض.

فرضت أوسلو انعطافة كبرى في الخطاب الرسمي الفلسطيني؛ من "الثورة" إلى "السلام"، ومن "المعركة" إلى "التفاوض"، ومن "تحرير فلسطين" إلى "دولة قابلة للحياة"، لكنّ العشرية التي أعقبت ثورية عرفات تشهد على انعطافة أخرى، تمارس الرسمية الفلسطينية معها تكييفاً مركّزاً للوعي الجمعي الفلسطيني، لتمرير حصيلة تفاوض بائسة تقتضي الكفّ عن مواصلة "الحلم".

انحنى الخطاب الرسمي الفلسطيني عند الجدار العنصري وتناسى حدود هزيمة 1967 ذاتها، فلا يقوى على مدّ البصر ليتجاوز ما قرّره شركاء التفاوض الإسرائيليون ورسمته آلة حربهم. وتستحيل "العودة" في هذا السياق إلى كلمة مزعجة ومُربِكة أكثر من أي وقت مضى، بما يقتضي طمسها أو تحويرها والانشغال بتصريف اللاجئين في مسالك شتى دون أرضهم وديارهم.

الرسمية الفلسطينية وأحجية الإيماءات

اختفت الكوفية والمسدس من مقرّ المقاطعة، ولم تعد الهتافات النضالية تتردّد في أرجائها التي أسلمت مقاليدها لنهج "الواقعية". ما تبقّى للفلسطينيين هو أن يختبروا فراستهم لاستنتاج المسكوت عنه في أروقة التفاوض، عبر تحليل "لغة الجسد"، كالتي استعملها عبّاس في حديثه إلى الإسرائيليين الذين زاروه في رام الله في شباط. فهي إيحاءات وإيماءات قد تختزن دلالات نسبيّة بشأن الوجهة.

أكّد عبّاس لزائريه أنّ قضية اللاجئين "مُشكِلة"، وأنه لا يفكّر إطلاقاً بالسماح بعودتهم إلى أرضهم وديارهم خشية "إغراق إسرائيل بخمسة ملايين لاجئ فلسطيني وتغيير تركيبتها الاجتماعية"، ودعا لإشعار اللاجئين بالرضى عن نتيجة أيّ حلّ، متحدِّثاً عن "الحلول الخلاقة" وقد أشار بيده بمعنى المال.

في إشارات كهذه تتجمّع أجزاء الأحجية في الوعي الجمعي الفلسطيني الذي لم يعد قادراً على تحديد الدلالات، لاضطراب العلاقة بين الدال والمدلول في ملفّات التفاوض كافّة؛ مثل الدولة المستقلّة والسيادة والأراضي والمعابر والحدود واللاجئين، وحتى القدس ذاتها. فما يتأكّد استنتاجاً في لحظة تفاوضية جارفة، أنّ القدس التي يعنيها الرسميّون هي شظايا مبعثرة من شطرها الشرقي، داخل الجدار أو خارجه، و"قدس" كهذه لا تصمد في مواجهة من يتشبّثون بالقدس "الموحّدة والأبدية .. عاصمة للدولة اليهودية".

المصدر: السبيل الأردنية