القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

الذاكرة الفلسطينية وتل الزعتر

الذاكرة الفلسطينية وتل الزعتر

بقلم: علي بدوان

في مثل هذه الأيام من عام 1976، كان مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين والواقع في المنطقة الشرقية من بيروت، ميدانًا لحرب إبادة واسعة النطاق، قامت بها المجموعات العسكرية والميليشيات التابعة لقوى اليمين الفاشي اللبناني، وتحديدًا لحزبي الكتائب والوطنيين الأحرار، ولحزبي التنظيم وحراس الأرز.

حكاية مخيم تل الزعتر، تروي السطور المأساوية من حياة وكفاح الشعب العربي الفلسطيني، وفلسطينيي لبنان على وجه التحديد الذين لاقوا الهوان والذل والحرمان منذ أن وطأت أقدامهم أرض لبنان عام النكبة. كما تروي في جانبها الآخر صفحة مجيدة من تاريخ الشعب الفلسطيني، وكفاحه الوطني، وبطولة سكان المخيم الذين صنعوا أسطورة حية تلهم أمة بكاملها على مدى الأجيال القادمة.

حكاية ووقائع ما حدث في مخيم تل الزعتر، تكتب أيضًا السيرة الدرامية لقطاعات من الشعب اللبناني، هم فقراؤه وكادحوه، وأبناء المناطق الريفية المهمشة في الجنوب وعكار وجرود الهرمل ومعهم المئات من عائلات العمال السوريين في لبنان الذين كانوا ضمن حدود مخيم تل الزعتر، إلى جوار أشقائهم الفلسطينيين في بيوت متواضعة البناء، وبعضها لا سقف له سوى أسقف من ألواح الصفيح المصنوعة من معدن التوتياء.

بدأت معركة مخيم تل الزعتر، أطول معارك الحرب الأهلية اللبنانية وأكثرها خسائر وضحايا عندما فرضت قوى اليمين الفاشي اللبناني الحصار على مخيم اللاجئين الفلسطينيين منذ شهر يناير 1976، لتبدأ المعركة الكبرى للمخيم في الثاني والعشرين من يونيو عندما شنت قوى اليمين هجومًا واسع النطاق على المخيم وعلى التجمعين المجاورين له، وهما مخيم جسر الباشا للاجئين الفلسطينيين، وغالبية أبنائه من مسيحيي فلسطين، ومنطقة النبعة التي تضم سكانًا لبنانيين من المناطق المهمشة والأكثر فقرًا وإهمالاً في لبنان. وكل تلك المناطق كانت مطوقة تطويقا كاملاً بحزام كانت تسيطر عليه قوات اليمين الفاشي اللبناني.

وطوال معركة حصار المخيم لم تنقطع الهجمات المتتالية التي شنت على المخيم وعلى مجموع سكانه من المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين الذين كانت أعدادهم تقارب نحو "15" ألف لاجئ فلسطيني ومعهم بحدود "20" ألف مواطن سوري ولبناني، ولم تنقطع القذائف والصواريخ عن المخيم طوال اثنين وخمسين يومًا متتاليًا، حيث قدر عدد القذائف التي سقطت على مخيم تل الزعتر خلال الحصار إياه بحوالي "55000" قذيفة.

لقد كانت معركة مخيم تل الزعتر وصموده الأسطوري، مشروع إبادة بالأسلوب الفاشي الصرف لجأ إليه حزب الكتائب والقوى اليمينية المتحالفة معه من أجل تدمير وكسر القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية التي كانت تأتلف معًا في إطار القوات المشتركة اللبنانية والفلسطينية.

لقد صمد المقاومون الفلسطينيون داخل مخيم تل الزعتر، وقاتلوا ببسالة منقطعة النظير دفاعًا عن أرواح الناس من النساء والأطفال والشيوخ وكبار السن، كما قامت قوات المقاومة في المناطق الواقعة خارج حدود المخيم بالتعامل مع مواقع قوات اليمين الفاشي التي تحاصر المخيم بقصفها وبتدمير مدافعها المبعثرة في مناطق بيروت الشرقية، وعلى التلال المجاورة.

وبفضل الصمود الأسطوري للمدافعين عن المخيم، وبفعل الحزام الناري الذي أقاموه لم تتمكن قوات اليمين من دخول المخيم، بل تكبدت خسائر فادحة كان منها مقتل القائد العسكري لحزب الكتائب وعضو مكتبه السياسي وليام حاوي في واحدة من الهجمات الشرسة التي شنت على المخيم.

إن ما أرهق الناس والمقاتلين داخل تل الزعتر أثناء معركة المخيم، أن الحصار الذي دام أكثر من خمسة أشهر أفضى بالأهالي إلى عتبة المجاعة، بل إن ما كان أكثر قسوة وفظاعة هو نقص الماء وشحه، فبعد أن نجحت قوات اليمين الفاشي في تفجير شبكات المياه لم يبق أمام أهالي مخيم تل الزعتر سوى بئر ملوثة شحيحة المياه وكان البئر معرضا لسيل من القذائف المنهمرة على المخيم فكان كأس الماء يساوي كأسا من الدم.

لقد انتهت معارك مخيم تل الزعتر في الثاني عشر من أغسطس 1976 بعد حصار طويل، سقط خلاله العشرات من الشهداء والضحايا، وتم وقف إطلاق النار بعد فشل القوات اليمينية من دخوله وقبولها بفتح معبر خروج للمدنيين الذين نقلوا باتجاه منطقة الدامور، في حين غادر المخيم المقاتلين من عموم الفصائل والقوى الفلسطينية عبر الغابات والهضاب المحيطة والمجاورة، والذين وصلوا إلى مناطق القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية مرددين أغنية وطنية مطلعها يقول:

تل الزعتر يا مدمر فيك البنيان... دم الشهدا تفجر بأرضك بركان

إن الوقائع الحية، وكل المعطيات المتوفرة، تشير ودون "تضخيم أو تقليل" إلى أن أعداد شهداء ملحمة تل الزعتر وصلت إلى نحو تسعمائة شهيد، أكثر من ثلثهم من السوريين واللبنانيين الذي كانوا داخل المخيم، وقد شاركوا بصناعة أسطورة الصمود جنبًا إلى جنب مع باقي القوى والفصائل والمقاتلين الفلسطينيين.

لقد كتب الكثير عن مخيم تل الزعتر، بشكل ارتجالي وعشوائي، وبشكل عاطفي، إلا أن المادة الموثقة ولو بحدود معينة ما زالت محفوظة لدى من صنع صمود المخيم، بالرغم من وجود ثلاثة كتب جيدة نسبيًّا، وقد تناولت بالتوثيق وبالأسماء والمعطيات، بما في ذلك أسماء الشهداء معركة تل الزعتر، وهذه الكتب هي: كتاب الأخ هاني مندس عن تل الزعتر، وكتاب المرحوم الصديق علي حسن خلف المعنون تحت اسم "النهوض مرة أخرى"، وكتاب اللبناني الفتحاوي روجيه نبعة.

أخيرًا، إن الحديث عن صمود تل الزعتر، وتلك الأسطورة الخالدة في سفر الكفاح الوطني الفلسطيني تدعونا لذكر بعض أسماء خيرة الكوادر من الذي صنعوا وقائع صمود المخيم، ومنهم: المقدم سلمان غينشر مسؤول حركة فتح والقوات المدافعة عن المخيم، والشهيد أبو أمل قائد الجبهة الشعبية في المخيم، والأخ جمعة العبد الله مسؤول الجبهة الشعبية/القيادة العامة، ومعهم المئات من المناضلين الفلسطينيين ومن أبناء المخيم.

لقد أرادوه مقتلاً، لكنه سيظل تاريخًا مجيدًا، غير قابل للطي أو النسيان، فالنسيان يليق بكل الأسماء لكنه لن يكون تل الزعتر.

المصدر: العرب أونلاين