القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

الذكرى السنوية الأولى لـ«العصف المأكول»: تضحيات فلسطينية كبيرة وخسارة استراتيجية ضخمة للاحتلال

الذكرى السنوية الأولى لـ«العصف المأكول»: تضحيات فلسطينية كبيرة وخسارة استراتيجية ضخمة للاحتلال

بقلم: رأفت مرة

تُعتبر حرب "العصف المأكول"، وهو الاسم الذي أطلقته حركة حماس على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في شهر تموز/يوليو 2014، والذي سمّاه الاحتلال "الجرف الصامد"، أطول الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، وثاني أطول الحروب العربية الإسرائيلية بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

اختلفت حرب "العصف المأكول" عن غيرها من الحرب العربية الإسرائيلية، فهي جرت فوق الأرض الفلسطينية، داخل ما يسمّى حدود الكيان الصهيوني، وهي الأطول إذ استمرت 51 يوماً، وهي الأعنف من حيث شدّة القصف وعنفه والأسلحة المستخدمة، إذ ألقى الاحتلال الإسرائيلي حوالي 20 ألف طن من المتفجرات، ما يوازي ست قنابل نووية، واستخدم أكثر من 75 ألف جندي ومئات الطائرات والدبابات.

الحروب تقاس بنتائجها..

للتعرّف على نتيجة حرب "العصف المأكول"، لا بد من العودة للأسباب والأهداف، حيث حدّدت الحكومة الصهيونية مجموعة من الأهداف لهذا العدوان:

1- ضرب المقاومة وإلحاق خسائر فادحة بها.

2- تدمير الأنفاق (خاصة المحاذية للحدود) والأسلحة الصاروخية والبنية التحتية لتصنيع الصواريخ.

3- تطويع الإرادة السياسية لحماس وللفلسطينيين.

4- توفير الأمن لسكان المستوطنات لفترات قادمة طويلة.

5- إعادة الاعتبار لنظرية الردع الصهيونية بعد تفكّكها تحت ضربات صواريخ المقاومة.

6- إيجاد حزام أمني حول الحدود مع قطاع غزة، بعمق معيّن يعيق تقدّم المقاومة، ويوفّر الحماية لجنود الاحتلال.

لتحقيق هذه الأهداف، اعتقد العدو أن الوضع السياسي وأوضاع المنطقة تسمح له بتنفيذ "عملية خاطفة"، للقضاء على حماس أو لتحجيمها.. فالحصار على قطاع غزة شديد، والأوضاع الاقتصادية صعبة، وحماس دخلت في مصالحة مع عباس في شهر نيسان/أبريل أي قبل العدوان بثلاثة أشهر، وعلاقة حماس بمصر وسوريا وإيران وحزب الله سيئة، والعالم العربي منشغل بأزماته، والمجتمع الدولي يركّز على أزمات سوريا والعراق ومصر.

لذلك حاول العدو شنّ "حرب خاطفة" تنسجم مع استراتيجية الاحتلال التقليدية في تنفيذ الحروب، يُجبر فيها حماس وقطاع غزة والفلسطينيين على الانصياع إن لم يكن الاستسلام.

كانت تقارير الأجهزة الأمنية في المطبخ الحكومي الإسرائيلي تمتلك تقديرات مبسطة للواقع العسكري لحركة حماس. فهي كانت تشير إلى امتلاك حماس أقل من 15 صاورخاً يصل مداها لحدود 75 إلى 100 كلم، وأن حماس تستخدم الأنفاق، لكن ليس بهذا الشكل الذي ظهر، وأن أوضاع المنطقة لن تسمح لحماس بخوض حرب طويلة.

الاستراتيجية التي تعاملت بها حماس أذهلت الإسرائيليين والعالم.. وركزت على التالي:

1- الاستخدام الأمثل للبنية العسكرية الموجودة لصد العدوان.

2- إفشال العدوان بالكامل، ومنع الاحتلال من تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية، لا للخسارة.. لا للاستلام.

3- ضرب الاحتلال في عمقه الاقتصادي والبشري والأمني.

4- تحقيق انتصارات تكتيكية مهمة جداً على الصعيد العسكري.

5- الاستخدام الأمثل للحرب النفسية والإعلامية.

6- إيجاد أزمات سياسية واقتصادية وأمنية داخل الكيان.

7- المحافظة على المكتسبات التي حققها أهالي قطاع غزة، وعدم السماح بأي خسارة سياسية.

على الصعيد العسكري، استخدم الاحتلال الصهيوني كامل ترسانته العسكرية، واستنفد مخزونه الاستراتيجي، ما اضطر الولايات المتحدة للسماح له باستخدام مخزونها الاستراتيجي في فلسطين المحتلة. وقصف جيش العدو الأحياء السكنية والمدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات الإنسانية والإعلامية والمساجد والكنائس، وارتكب مجازر ضدّ العائلات والأطفال.

وأدى ذلك لاستشهاد 2152 فلسطينياً، وجرح 11231 آخرين، وإبادة 60 عائلة بالكامل، وتدمير 9800 وحدة سكنية، وتضرّر 8000 وحدة، وتدمير 81 مسجداً، وتدمير وتضرّر 230 مدرسة وجامعة، و350 منشأة صناعية، إضافة إلى المؤسسات الحكومية والبنية التحتية.

دخول الجحيم

وأمام فشل الاحتلال في تحقيق أي هدف سياسي أو عسكري، اضطر جيش العدو لبدء عدوان برّي ضد قطاع غزة، فهاجم القطاع من عدة محاور، لكنه مني بفشل ذريع، رغم أنه استخدم نخبة النخبة من وحداته، وهي الوحدات التابعة لهيئة الأركان. وجاء هذا القرار بشكل متخبط في ظل تردّد الحكومة الإسرائيلية، ورفض الجيش للحرب البرية، ورأي عام معارض، إلا رأي المستوطنين في المستوطنات المحاذية لقطاع غزة الذين دعموا حرباً برية.

حركة حماس ردّت على العدوان الإسرائيلي بشدّة غير متوقعة إسرائيلياً: فقصفت مدن حيفا وتل أبيب والقدس المحتلة بالصواريخ في 8-7-2014، ومدينة الخضيرة ومطار "نيفاتيم" العسكري وبلدة "ديمونا" للمرة الأولى في 9-7-2014، ومطار بن غوريون في 11-7-2014، وتوعدت كتائب القسام في 12-7-2014 متحدية جيش الاحتلال بقصف تل أبيب ونفّذت ذلك أمام كل وسائل الإعلام، وأرسلت طائرة بدون طيار يوم 14-7-2014 وحلّقت في سماء تل أبيب. وفي 8-7-2014 هاجمت وحدة كوماندوس بحرية قاعدة "زيكيم" الإسرائيلية فقتلت عدداً من الجنود، ثم هاجمت وحدة من "كتائب القسام" في 28-7-2014 موقع "ناحال عوز" من تحت الأرض، وقتلت تسعة من جنود الاحتلال، وصوّرت العملية وبثّت الشريط، ما أدى إلى أزمة سياسية وعسكرية داخل الكيان.

وصمدت حماس على كل الجبهات.. في الشجاعية خاضت معارك شرسة ومباشرة مع جنود الاحتلال، الذين وصفوا تلك المواجهات بالجحيم.

وفي جنوب غزة وشمالها، وخزاعة ورفح، تكبّد الاحتلال خسائر باهظة رغم تقدّمه البري في مناطق حدودية، ورغم التدمير الهائل الذي استخدمه.

اعتراف بالفشل

هذا الصمود الفلسطيني الذي مثّلته "كتائب القسام" دفع قادة الاحتلال والإعلاميين الصهاينة للاعتراف بتفوّق حماس وهزيمة الاحتلال.

فقال المحلل الإسرائيلي بن كاسبيت إن "مصير رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو السياسي الآن بيد قائد ‏كتائب القسام محمد الضيف". ونقلت صحيفة "هآرتس" في 5-8-2014 عن نتنياهو قوله "إن حركة حماس بذلت جهداً هائلاً من أجل بناء منظومة استراتيجية والجيش الإسرائيلي ‏لم ينجح في تدميرها كلياً في هذه الحرب"، ثم عن قائد سلاح البحرية الإسرائيلي السابق الذي قال للتلفزيون ‏الإسرائيلي "لم نحقق قوة الردع الإسرائيلية".

وكشفت القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي في 5-8-2014 أن "قتلى قوات ‏النخبة للجيش الإسرائيلي في حرب غزة الحالية يعادلون أربعة أضعاف من قتلوا في حرب لبنان 2006".

وكان رئيس شعبة العمليات الأسبق في الجيش الإسرائيلي، يسرائيل زيف، قال لصحيفة "يديعوت ‏أحرونوت" في 31-7-2014 إن "التحقيقات التي يجريها الشاباك أشارت إلى أن حركة حماس استعدت جيداً ‏للمعركة"، وأقر وزير السياحة الإسرائيلي "عوزي لاندو" بفشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه من الحرب قائلاً "خسرنا معركة استراتيجية أمام قطاع غزة".

وقال اللواء احتياط السابق في جيش الاحتلال، غيورا آيلند، لصحيفة "يديعوت أحرنوت" إن حركة حماس ‏‏"نجحت في بناء جيش نوعي وقوي ومثير للانطباع، وقطاع غزة تحوّل إلى دولة بنت جيشاً قوياً، وهذه ‏الدولة تحاربنا بكل قوة".

كما وصف كاتبان ينتميان لمؤسسات عسكرية أمريكية في مقال لهما في صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية في 5-8-2014 ‏أداء "كتائب القسام" بأنه "أكثر احترافية وخطورة من ذي قبل".

وجاء في المقال إنه "على الرغم من أن تطور أداء الجيوش يُقاس بالعقود والسنين الطويلة، إلا أن تطور ‏أداء كتائب القسام والحركات الجهادية يمكن ملاحظته على مدار سنوات قليلة وبشكل كبير للغاية".

قراءة استراتيجية

من خلال قراءة موضوعية، نستطيع القول إن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كان ضخماً وعنيفاً ومؤلماً، وإن الاحتلال استخدم أهم عناصر القوة لديه، وأشدّ وسائل التدمير والقتل والإبادة، التي توفر الأطفال على الشاطئ (4 أطفال من عائلة بكر في 16-7-2014)، أو في الملاعب (8 أطفال في حديقة يوم 28-7-2014 أول أيام العيد).

لكن في السياسة، ومن خلال مراجعة أهداف العدوان الإسرائيلي، فإن الحكومة الصهيونية فشلت في تحقيق ما أعلنته وشدّدت عليه من أهداف، مثل: تدمير الأنفاق وترسانة الأسلحة الصاروخية، وتطويع إرادة غزة،وضرب المقاومة، وتوفير الأمن للمستوطنين.

فقد بقيت حماس تستخدم الأنفاق بكفاءة طوال الحرب، وأعادت ترميم ما تهدّم، وأنشأت أنفاقاً جديدة، وظلّت وتيرة إطلاق الصواريخ محافظة على مستوياتها، بعد أن أطلقت حماس ما يقارب 7000 صاروخ خلال المعركة. ولم تستطع الحكومة الصهيونية طمأنة المستوطنين في جوار غزة، وهم يشاهدون حماس تشقّ الطرقات في محاذاة المستوطنات، وهم يسببون القلق لحكومتهم من كثرة الشكاوى عن سماعهم أصوات حفر الأنفاق.

ولم يجرؤ العدو على الاعتراف بحجم خسائره البشرية، وهو أعلن فقط عن مقتل 65 جندياً وإصابة 1400، لكن التقديرات الفلسطينية والمحايدة تشير إلى أضعاف هذه الأرقام، وقد أعلنت حماس عن قتلها 140 جندياً من المسافة صفر.

سياسياً.. وقف الفلسطينيون في الداخل والخارج إلى جانب حماس، وتوحدوا في دعم المقاومة، وسارعت مختلف القوى السياسية إلى دعم خيار الصمود ومقاومة الاحتلال والتصدي للعدوان، وحوّل الفلسطينيون خسارتهم البشرية والمادية المؤلمة إلى فرح وانتصار. وعند وقف إطلاق النار نزل آلاف الفلسطينيين في مسيرات فرح للاحتفال بفشل العدوان.

واستطاعت حماس استثمار العدوان سياسياً، فأصرّت على تشكيل وفد فلسطيني مشترك للذهاب إلى القاهرة لمفاوضة الاحتلال بشكل غير مباشر، وهو ما أظهر وحدة في الموقف الفلسطيني رغم كل الملاحظات.

وعملت أطراف إقليمية مثل إيران وحزب الله على تفعيل تواصلها مع حماس بعد تراجع.. واضطرت السلطات المصرية لاستقبال وفد من حماس رغم كل ما أصدرته من اتهامات بحق الحركة.

ونجحت حماس في تعزيز وضعها السياسي والشعبي على المستوى الفلسطيني، وأظهرت الحرب أن مشروع الصمود والمقاومة هو المؤثر، وشهد الجميع بتراجع محمود عباس وتراجع مشروعه وتعثّره، وهو إلى اليوم فشل في إعادة إطلاق المفاوضات، وفشل في استثمار نهج المصالحة الذي سارت عليه حماس.

ومع توقّف العدوان، سارعت أطراف دولية وإقليمية إلى الاتصال بحماس، والتحاور معها من أجل التوصل إلى هدنة متوسطة المدى، وسط اعتراف دولي وإسرائيلي بفشل العدوان، واستحالة الحلّ العسكري، وصعوبة القضاء على حماس.

وصارت تصريحات الجنرال الإسرائيلي شلومو ترجمان، قائد ما يسمى الجبهة الجنوبية، التي قال فيها إنه "لا بديل عن حماس"، وتصريحات الجنرال يوآف هار إيفين رئيس شعبة العمليات في جيش الذي قال إنه "لا حلّ عسكرياً في غزة"، بمثابة اعتراف سياسي عسكري صهيوني على مستوى رفيع بفشل عدوان 2014، وهو يعبّر عن تحوّل، ويفتح الباب أمام طريقة أخرى للتعامل مع قطاع غزة.

وأظهرت حماس للعالم مدى جهوزيتها العسكرية، فقد نظمت العروض العسكرية الضخمة، وأنزلت أسلحة جديدة، وكشفت عن امتلاكها مفاجآت على صعيد الأسرى والجثث، ونظمت معسكرات شبابية درّبت عشرات آلاف الشباب على السلاح.

أدّت الإدارة العسكرية التي نفذتها حماس من حيث الإنزالات البحرية وعمليات ما وراء خطوط العدو عبر الأنفاق وقصف عمق الاحتلال، إلى تشويه صورة الجندي الإسرائيلي، وإضعاف المستوى العسكري الذي يروّج الاحتلال امتلاكه على المستوى الدولي.

وفقد جيش الاحتلال صورته التي رسمها، بعدما فشل في كل هجماته البرية، وجاءت صورة الجندي الإسرائيلي المرتجف وصوت الجندي الآخر الذي يصرخ "أمي أمي" في "ناحال عوز"، واعترافات قائد كتيبة المدفعية "دركون" غادي درور أن ما جرى بالشجاعية يوازي معركة بنت جبيل الشهيرة بجنوبي لبنان خلال حرب لبنان الثانية بثمانية أضعاف، لتظهر الجيش الصهيوني بأبشع وأضعف حال.

وما جرى على مستوى العالم لا يقلّ أهمية عما جرى في فلسطين، فبعد العدوان الإسرائيلي وانكشاف مدى إجرامه وإرهابه، حصل تحوّل في الرأي العام الدولي ضدّ الاحتلال، فقد سارعت عدة دول إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وانضمت دولة فلسطين إلى العديد من المنظمات الدولية، واتسعت المقاطعة في أوروبا والولايات المتحدة لدولة الاحتلال، وزار قطاع غزة عدة مسؤولين دوليين وأجمعوا على ضرورة فكّ الحصار والبدء بالإعمار، وسارعت مؤسسات اقتصادية وثقافية وعلميه عالمية إلى وقف علاقاتها بالاحتلال، ودفع هذا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى مهاجمة هذا التحوّل بشدة.

على المستوى الإسرائيلي الداخلي، أدت الحرب على غزة إلى خلق توترات وصراعات كثيرة داخل الحكومة والأحزاب. فقد اضطر نتنياهو –بسبب حجم الإخفاق والخسائر- إلى وقف العدوان من دون الرجوع إلى حكومته، ما أثار ضدّه ردود فعل غاضبة، ولم تلقَ العبارات التي أعلن فيها انتصاره تأييداً ملحوظاً، واضطر لإجراء انتخابات مبكرة كانت نتائجها أسوأ من قبل.

أما على مستوى الأمّة، فإن نتائج الحرب الأخيرة غزة أكدت على دور حماس في الأمّة، وعلى مكانتها الشعبية والسياسية، وعلى عدالة مشروعها، وظهرت القضية الفلسطينية مجدداً أنها قضية الأمّة المركزية، وعادت حماس لتدخل صلب المجتمعات والمحافل السياسية التي خاصمتها في الفترة الأخيرة.. واليوم نشهد إقبالاً شعبياً وسياسياً ودولياً باتجاه حماس، وهو ما يعني ضرورة المحافظة على منجزات وتضحيات "العصف المأكول" التي قدمتها حماس وقدّمها الفلسطينيون من دمائمهم.