الرمز الملثّم: أبو عبيدة والجماهير خلال «العصف المأكول»
بقلم: حسام شاكر
اكتسب اللثام رمزية فائقة في تجربة المقاومة الفلسطينية،
رغم أنه عائق تواصلي في أصله. فاللثام الفلسطيني هو الكوفية
المرقطة، التي تستجمع الأبيض مع الأسود أو الأحمر، فاستحالت بهذه الخصوصية رمزاً
مزدوجاً لتراث فلسطين ولكفاح شعبها.
ينتصب اللثام في أصله عائقاً تواصلياً، لأنه يواري الوجه
الذي هو صفحة التواصل البشري الأساسية، وهو فوق ذلك قد يستدعي الإحساس بالغموض
والرهبة، علاوة على أنه ارتبط جزئياً في وعي البشر بنشاطات مقترنة بالعنف والتهديدات،
سواء ارتكبتها جماعات أو عصابات. على أنّ اللثام قد حضر بأشكاله المتنوعة في
العديد من حركات التحرر حول العالم، واستتر خلفه ناشطو المنظمات الثورية والجماعات
المسلحة على تنوّع مشاربها.
أما في الخصوصية الفلسطينية؛ فقد تعززت مكانة الفدائي في
الوعي الجمعي من خلال اقترانها باللثام. بل كان الفدائي الملثم رمزاً بحياله،
ومحوراً للصور الرمزية والرسوم والشعارات والأناشيد التي تراكمت عبر عقود، فهو
يمتشق السلاح بتصميم، ويتحرك في الميدان بجسارة.
تعاظمت رمزية الفدائي الملثم مع بزوغ تجربة فصائل الثورة
الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكنّ الحاجة الواقعية إلى
اللثام لم تكن كمثيلتها اليوم. فمقاتلو الثورة آنذاك كانوا سافري الوجوه في معظمهم،
وفق ما اقتضته تقديرات الميدان الذي تركّز وقتها خارج فلسطين، أما اليوم فإنّ
المقاوم الفلسطيني لا يكاد يظهر على الأرض الفلسطينية إلاّ ملثماً، وهو ما تمليه
تقديرات الميدان الراهنـــة.
إنّ اللثام ليس استثناء لأبي عبيدة، المتحدث باسم
"كتائب القسام"، بل هو سمة عامة لحضور المقاومة الفلسطينية اليوم التي
لا يتأتى إبصار قدراتها الكاملة. فمعظم البنى التحتية للمقاومة في قطاع غزة هي في
الواقع مستترة تحت الأرض، ونادراً ما يظهر جيشها الجرّار الذي ينتظم فيه ألوف
المقاومين، وهو ما يجعل الاحتجاب عن الأنظار سمة للحضور الفلسطيني المقاوم في شكله
الراهن، بالمقارنة مع زمن "الثورة" وتجربة فصائلها في الأردن خلال
الستينيات، وفي لبنان خلال السبعينيات.
وبناء على هذا التراكم الذي تعاقب على الوعي الجمعي بشأن
صورة الفدائي، وعبر الخبرات المتجددة في المقاومة وتجاربها؛ برز نموذج أبي عبيدة. إنه
نموذج جديد نسبياً، يتجاوز الحيِّز النمطي للفدائي الذي يتحرك ببدنه ويتصرف بيديه،
إلى وظيفة المخاطبة اللفظية المباشرة عبر الشاشات أيضاً.
على أنّ المخاطبة من وراء اللثام هي عملية شاقة،
فالرسائل لا تتدفق إلى وعي الجمهور خلال المخاطبة المرئية من خلال النصوص المنطوقة
بشكل مجرّد وحسب؛ بل أيضاً عبر الإشارات غير اللفظية التي يبعث بها الوجه
بمواصفاته وقسماته وإيماءاته، علاوة على انفعالات الجسد ككل، واستعمالات الصوت
كذلك.
ومع غياب انفعالات الوجه عن الصورة، حسب ما تقتضيه
ضرورات الميدان الفلسطيني اليوم؛ اتسم خطاب أبي عبيدة بتعبيره الصريح عن الإرادة
والتحدي بتوظيف نبرة الصوت، وبتفاعل الجسد بوضوح مع الأداء اللفظي المنطوق، عبر رفع
أصبع السبابة بشكل متكرر مثلاً، بما يؤكد الثقة بموقف المقاومة، وبما يضاعف
الرسالة التحذيرية للاحتلال.
والواقع أنّ الذين واكبوا أبا عبيدة ليس بوسعهم تخمين
قسمات وجهه الكامنة وراء لثامه الأحمر، لكنّ الاحتجاب الشامل تقريباً للوجه لم
يمنع تواصله الفعال معهم. فقد تطورت بين أبي عبيدة والجماهير التي تابعته خلال
"العصف المأكول" لغة تواصل تفيض بالتعبيرات التي انتقلت من انفعالات وجهه
إلى حركة رأسه ويديه. ومع لغة التفاهم الخاصة بين المتحدث باسم "كتائب
القسام" والجماهير التي اجتذبتها إطلالاته الإعلامية؛ تحوّل اللثام من عائق
تواصلي في أصله إلى عُمق رمزي للمتحدث، وعامل جذب إلى الفحوى.
لم تكن تلك هي الإطلالات الأولى لأبي عبيدة الذي تعاقبت
محطات ظهوره عبر أعوام مديدة، وهو ما قد يثير التساؤل عن الخصوصية التي بعثت بكلّ
هذه الدفقات الرمزية في حضوره الجماهيري خلال حرب "العصف المأكول" بصفة
خاصة، مقارنة مع ما سبق ذلك. صحيح أنّ المتحدث هو ذاته الذي ظهر مراراً من قبل لمخاطبة
الجماهير عبر وسائل الإعلام، وأنه لم يفارق أسلوبه المعروف في المخاطبة حتى وإن
طرأت بعض التفاصيل الجزئية على أدائه؛ لكنّ الجديد نسبياً هو أمد المواجهة الضارية
عبر أسابيع سبعة، بما استدعى ظهوره المتكرر بدلاً من إطلالاته النادرة في ما مضى.
إنّ هذا التكرار هو أدعَى للألفة وتعزيز الصورة الرمزية،
خاصة وأنه جاء مصحوباً ببلاغات محفِّزة للجماهير ترتدّ معها الرسالة المرغوبة
بتأثيرات إيجابية على الانطباعات المتكوِّنة عن حاملها. فكلما ظهر أبو عبيدة، تسمّرت
الجماهير في مواجهة الشاشات بانتظار المفاجأة الجديدة، وقد تلاحقت المفاجآت التي
أعلن عنها باقتدار وكان بعضها مذهلاً حقاً، بما أضاف رصيداً لإنجازات المقاومة على
الأرض.
وقد ترافق هذا مع التعاظم المطّرد في حضور شبكات التواصل
الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية، بما تحوزه من تأثيرات جمّة في واقع المجتمعات
تستحيل معها ميداناً لتناقل الرسائل الإعلامية وتدويرها أولاً بأول، وإعادة
إنتاجها أيضاً. كما أنّ الشبكات والتطبيقات هي فضاء للتعبير الجماهيري عن الإعجاب
والتأييد، على نحو جعل من صورة أبي عبيدة اختياراً متقدماً لدى مستخدمي الشبكات
والتطبيقات في تعريف أنفسهم من خلاله، وهي حالة نادرة من التماثل مع الشخصية
المفضلة رغم أنها تتميز في هذه الحالة بوجه غير معروف أساساً.
ما تجدر ملاحظته أنّ رمزية أبي عبيدة في هذا المقام ليست
شخصية مجرّدة بذاتها، بل هي كناية عن رمزية المقاومة الفلسطينية إجمالاً، فالمتحدث
باسم "كتائب القسام" هو التعبير البشري المصوّر عن المقاومة المستبسلة
على الأرض. وإذا كان اللثام يمنح في أصله شعوراً بالرهبة والغموض؛ فإنّ الجماهير
قد تستحضر هذا الإيحاء باستصحابه مع رسائل الترهيب المتدفقة على المحتلين الغزاة.
وتتفاعل الإيحاءات مع الرمز الملثم؛ فخلف لثام "أبي عبيدة" تكمن
المفاجآت التي تترقبها الجماهير، تماماً كمفاجآت المقاومة التي تظهر وفق ما هو
مقرّر لها في الزمان والمكان المناسبين.
ثم إنّ رمزية أبي عبيدة تمنح انطباعات شتى عن سياقات
التواصل خلال عملية المخاطبة، وأولها الحرب الضارية بين المقاومة والعدوان الشرس
الذي شنّه جيش الاحتلال على رقعة صغيرة من الأرض محاصرة من كل الجهات؛ اسمها قطاع
غزة. وهي حرب تصاعدت منها أعمدة الدخان في قلب العالم العربي في أهوائه المشتتة، وأرجائه
الممزقة، وانشغالاته بصراعاته، وأزماته، واضطراباته، وأولوياته المتفرقة، على نحو
غير مسبوق. ويجوز الزعم بأنّ فلسطين أعادت في جولة "العصف المأكول"
تنبيه الأمة للاكتراث بقضيتها الأولى التي يُفترض أن تجمع شعثها في زمن التفرّق
والتشظِّي، فخطاب المقاومة كما عبّر عنه أبو عبيدة، جاء تعبيراً عن مواجهة لا
تحتمل خلافاً عليها.
كما تظهر عبر صعود رمزية أبي عبيدة بعض سمات الجماهير
التي تتفاعل مع رسائله وإيحاءاته، ومعظمها، في فلسطين والأمة، أجيال دون الخامسة
والعشرين من العمر تتطلع إلى فارس آمالها. إنها أجيال تميل أكثر من غيرها إلى
تمجيد التضحية والبطولة فداءً للقيم النبيلة، كالتحرّر ومناجزة المحتل. ومن
المفهوم تماماً أن تجد الجماهير في أبي عبيدة تعبيراً عن قيمة المقاومة والحرية
ومقارعة الاحتلال والظلم، وأن يلوذ بعضها بالتعلق بهذا النموذج المجيد فراراً من
المخاضات العسيرة والحرائق الواسعة التي يعيشها. ففي هذا الزمن المضطرب والحافل
بالتغيرات المتسارعة؛ ينهض اللثام الفلسطيني تجسيداً بصرياً لكفاح المقاومة على
الأرض، ومعبراً رمزياً عن آمال التحرر والنهوض أو ما تبقّى منها في عيون الجماهير.