السلطة الفلسطينيّة
تتحوّل إلى «بلديّة موسّعة»
بقلم: عدنان
أبو عامر
ما زالت الأوساط السياسيّة
الفلسطينيّة منشغلة منذ أواخر تمّوز/يوليو بمسألة خلافة الرّئيس الفلسطينيّ محمود عبّاس،
وما يتعلّق بها من مخاوف فلسطينية وتقديرات مقلقة حول مستقبل السلطة الفلسطينيّة في
الضفّة الغربيّة بعد غيابه، لجهة إفراغ المضمون السياسيّ للسلطة وتحوّلها تدريجيّاً
إلى مجالس بلديّة موسّعة، تؤدّي أدواراً خدماتيّة، كما كانت عليه الحال قبل إنشائها
في عام 1993.
الخطورة في هذا السيناريو
المتوقع للسلطة الفلسطينية بتحولها إلى مجلس بلدي، أنه يمنع الفلسطينيين من تحقيق تطلعهم
بأن تكون هذه السلطة مقدمة لإقامة الدولة، بل إن هذا السيناريو يعود بهم تدريجياً إلى
سيطرة الاحتلال الإسرائيلي عليهم، وضياع أكثر من 20 عاماً عليهم دون جدوى منذ إنشاء
السلطة الفلسطينية.
التدخّل الإسرائيليّ
وأكّد عضو اللّجنة المركزيّة
في حركة "ـفتح" ووزير الأشغال الفلسطينيّ السّابق محمّد أشتيّة لـ"المونيتور"
أنّ "إسرائيل تسعى إلى جعل الفلسطينيّين يعيشون في كانتونات ومعازل من دون مقوّمات
سياسيّة، وأنّ السلطة الفلسطينيّة باتت مجرّد اسم، وهي في حقيقة الأمر لم تعد تتعدّى
بلديّة موسّعة".
وحذّر الضابط السّابق في
المخابرات العامّة الفلسطينيّة ورئيس المركز الفلسطينيّ للدراسات الاستراتيجيّة اللّواء
محمّد المصريّ في 15 آب/أغسطس من "خطّة إسرائيليّة لإضعاف السلطة الفلسطينيّة،
بحيث تتعامل إسرائيل في المرحلة المقبلة مع البلديّات وأطراف فلسطينيّة داخل الضفّة
الغربيّة بشكل مباشر، ممّا يضعف السلطة، ويفقدها كثيراً من شرعيّتها".
ولقد طالبت إسرائيل على
لسان وزير خارجيّتها السّابق أفيغدور ليبرمان في 19 كانون ثاني/يناير بـ"إيجاد
قيادة بديلة لعبّاس، لأنّ هناك زعامات فلسطينيّة مثقّفة وأكثر تسامحاً يمكن إجراء المفاوضات
معها".
ويدرك الفلسطينيّون أنّ
إسرائيل تمتلك تأثيراً واضحاً على شؤونهم الداخليّة، خصوصاً على طبيعة النّظام السياسيّ
الّذي يحكمهم، ويذكرون ضغوطها على الرّئيس الرّاحل ياسر عرفات، حين فرضت عليه محمود
عبّاس رئيساً للوزراء، وسلام فيّاض وزيراً للماليّة في عام 2002.
مسئول أمني فلسطيني رفيع
المستوى، رفض كشف هويته، أبلغ "المونيتور" أنه "قد يكون هناك استعداد
لدى بعض الفلسطينيّين للتساوق مع السياسة الإسرائيليّة بتحويل السلطة الفلسطينيّة إلى
كيان خدماتيّ موسّع من دون مضمون سياسيّ، خاصة من أصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال
الفلسطينيين، الذين قد تلتقي مصالحهم الاقتصادية مع مصالح إسرائيل السياسية، دون أن
يسمي أحداً منهم، في ضوء الضعف المتواصل الّذي يحيط بها، مع أنّ خطّة إسرائيل قد لا
تصل إلى إنهاء السلطة الفلسطينيّة كليّاً، بل الإبقاء عليها ضعيفة هزيلة".
لقد بدأت إسرائيل عمليّاً
بتطبيق سياسة تهميش السلطة الفلسطينيّة في الضفّة وتجاوزها، بالتّعامل المباشر مع الفلسطينيّين،
حين منحت 300 ألف منهم في منتصف تمّوز/يوليو تصاريح لزيارة مدن يافا وتلّ أبيب.
وإنّ خطورة الخطوة الإسرائيليّة
أنّها منحت التّصاريح للفلسطينيّين مباشرة عبر مكاتب الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة
المنتشرة في الضفّة، من دون أيّ دور للسلطة الفلسطينيّة، وتصرّفت إسرائيل كما لو أنّها
مسؤولة عن فلسطينيّي الضفةّ، وليس لهم سلطة تمثّلهم، وهذا تجاوز مهمّ وخطير للسلطة
من جهة، ومن جهة أخرى تضخيم لدور الإدارة المدنيّة التّابعة للجيش الإسرائيليّ، كسلطة
فعليّة على الفلسطينيّين.
وللعلم، فإنّ الإدارة المدنيّة
الإسرائيليّة هي المسؤولة المباشرة عن أكثر من 60 في المئة من أراضي الضفّة المصنّفة
وفق اتفاق أوسلو بالمنطقة "ج"، وتسعى الحكومة الإسرائيليّة إلى إعطائها تدريجيّاً
صلاحيّات أوسع في مناطق الضفّة على حساب السلطة الفلسطينيّة.
وفي هذا السّياق، قال عضو
اللّجنة المركزيّة في حركة "فتح" محمود العالول لـ"المونيتور":
"لا بدّ من وقفة أمام إصدار الّتصاريح الإسرائيليّة لفلسطينيّي الضفّة، لأنها
ترتبط برغبة إسرائيل في إعادة تواصلها معهم بشكل مباشر والتّفاعل معهم، مع تزايد حديثها
عن عدم جدوى استمرار السلطة الفلسطينيّة واحتمال عودة الإدارة المدنيّة الإسرائيليّة".
ذات المسئول الفلسطيني الذي
رفض كشف هويته أبلغ "المونيتور" أن "إسرائيل قد لا تعود إلى إعادة احتلال
كامل الضفّة الغربيّة في مرحلة ما بعد عبّاس، بل ربّما تلجأ إلى ضمّ بعض مناطقها وتنصيب
قيادات محليّة بدلاً من حكومة السلطة الفلسطينيّة لتؤدّي مهاماً إداريّة خدماتيّة على
ما سيتبقّى من الأرض الفلسطينيّة، وهناك خشية فلسطينية من أن تتحوّل كل مدينة وقرية
فلسطينيّة خارج نطاق السيطرة المباشرة للسلطة الفلسطينيّة إلى منطقة يسيطر عليها الجيش
الإسرائيليّ، وإسرائيل ستعزّز وضعاً كهذا". يختم المسئول الفلسطيني كلامه.
روابط القرى
ليست المرّة الأولى الّتي
تتعامل فيها إسرائيل مع الفلسطينيّين مباشرة من دون وجود سلطة وسيطة بينهما. لقد أسّست
بين عامي 1976-1982 روابط القرى، لتكون بديلة عن منظّمة التّحرير الفلسطينيّة، عبر
تكليف المجالس البلديّة والمحافظات في الضفّة الغربيّة إدارة شؤون الفلسطينيّين التعليميّة
والصحيّة والزراعيّة.
وفي هذا الإطار، قال وزير
الثقافة الفلسطينيّ السّابق إبراهيم أبراش لـ"المونيتور": "إنّ الشعب
الفلسطينيّ بات يدرك أنّ إسرائيل الّتي صنعت الانقسام بين الفلسطينيّين، تسعى إلى إعادة
روابط القرى في كانتونات منعزلة في الضفّة الغربيّة على حساب السلطة الفلسطينيّة في
مرحلة ما بعد الرّئيس عبّاس".
وتزامنت المخاوف الفلسطينيّة
من تهميش السلطة مع تحذيرات إسرائيل من اضطرارها إلى إدارة أوضاع الضفّة بعد غياب عبّاس،
كما ذكر المعلّق الإسرائيليّ للشؤون الفلسطينيّة آفي يسسخاروف في مقاله بـ17 آب/أغسطس
على موقع "تايمز أوف إسرائيل"، إذ قال: "إنّ الجنرال يوآف مردخاي، وهو
منسّق شؤون الأراضي الفلسطينيّة في وزارة الدفاع الإسرائيليّة، قد يجد نفسه مسؤولاً
مباشراً عن إدارة شؤون الضفّة الغربيّة".
لقد اطّلع "المونيتور"
على تقرير أمنيّ وصل إلى الرّئيس عبّاس قبل أسابيع، من دون معرفة التاريخ بدقّة، جاء
فيه: "إنّ إسرائيل عبر بعض ضبّاط أجهزتها الأمنيّة تتواصل مع مسؤولين فلسطينيّين
مباشرة، من رؤساء بلديّات ومحافظين للتباحث في قضايا خدماتيّة وتنسيقيّة من دون الرجوع
إلى الوزارات الفلسطينيّة المختصّة، وتجاهلها".
أضاف التقرير: "سجّلت
أجهزة الأمن الفلسطينيّة تجاوباً من بعض المسؤولين الفلسطينيّين مع الدعوات الإسرائيليّة،
ورفضاً من بعضهم، ممّا شجّع الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة، وتحديداً الإدارة المدنيّة،
على توسيع رقعة التّواصل مع مسؤولين فلسطينيّين آخرين، وهو ما ينذر ببوادر لتفكيك هيكلة
السلطة الفلسطينيّة، والتّعامل مع كلّ مسؤول فلسطينيّ على حدة، بعيداً عن المنظومة
الإداريّة الحاكمة في الضفّة الغربيّة".
وأخيراً، كثيرة هي السيناريوهات
المتوقّعة لمستقبل السلطة الفلسطينيّة في اليوم التّالي لغياب عبّاس، وتطرح على صنّاع
القرار الفلسطينيّ أسئلة صعبة، مثل: هل إنّ السلطة الّتي تأسّست عام 1994 لتكون مرحلة
انتقاليّة لإقامة الدولة الوطنيّة الفلسطينيّة انتهى بها المطاف لتكون تحت سلطة الاحتلال
الإسرائيليّ، أم هي سلطة يديرها الاحتلال الإسرائيليّ ذاته، أو ربّما تتحوّل في قادم
الأيّام إلى كيان أمنيّ تابع للجيش الإسرائيليّ وأجهزته الأمنيّة، بعد إفراغها من أيّ
مضمون سياسيّ؟.
المصدر: المونيتور