الشعب الفلسطيني بين النكبة والسلطة
بقلم: نايف السلمي
يجري إحياء ذكرى النكبة، نكبة فلسطين
وقيام إسرائيل، في منتصف مايو/ أيار من كل عام. وفيه يتذاكر الفلسطينيون، والعرب
عموماً، ماذا حل بهم في ذلك العام. الفلسطينيون بعد النكبة، إما تعرضوا للتهجير أو
للاحتلال أو لكليهما. أي أنهم إما طُردوا إلى الشتات، أو عاشوا غرباء مقيدين
محاصرين على أرضهم. تغيرت بنية هذا المجتمع. وشمل التغير إنتاج فئات اجتماعية
جديدة كاللاجئين والفدائيين والشهداء والفصائل، وشمل اعتبار السفر والترحال حالة
تعيش داخل الفلسطيني، حتى لو أظهر غيرها. وشمل، أيضاً، ظهور الفلسطيني بأدوار
متخيلة متناقضة في المخيلة العربية، فهو، أحياناً، البطل الشهيد، وفي أحيان أخرى
خائن عتيد. وشمل هذا التغير استنفار همة الفلسطيني في الذهاب للتعلم والدراسة، فما
من ضامن لحياة جيدة سوى هذه التعليم الجيد. وشمل صدعاً جديداً في المجتمع
الفلسطيني، فلم تعد ثنائية (مدني/ فلاح) وحدها الحاضرة في تمايزات هذا المجتمع، بل
أُضيف إليها الصدع الشهير (مواطن/ لاجئ أو مخيمجي). وشمل هذا التغير أنّ
الفلسطيني، أكثر من غيره من سائر العرب، صار مهموماً بالالتحاق بفصيل سياسي، أو
بمزاولة التنظير السياسي، فالالتحاق بهذا الفصيل، أو ذاك، هو لبنة من أجل العودة
إلى الوطن السليب. بسبب القضية، صار الفلسطينيون من أهم المنظرين السياسيين
عربياً. أخذوا معهم الكثير من أدبيات التنظير السياسي إلى باقي أقطار العرب،
كالوحدة العربية والصراع الطبقي والتقدمية ... غيرتهم النكبة وفقدان البلاد.
قبل النكبة وقدوم الاستعمار، نشط
فلسطينيون كثيرون في مواجهة التتريك، والمناداة بوحدة العرب واستقلالهم، كمحمد عزت
دروزة وموسى كاظم الحسيني. استفز فيهم المشروع الصهيوني الذي جثم على أرضهم
مشروعهم الوطني، فالعدو الواحد يصنع شعباً واحداً.
إذا كانت هذه، بإيجاز مخل، التغيرات
التي أحدثتها النكبة في المجتمع الفلسطيني، فماذا عن التغيرات التي حدثت لهذا
المجتمع، بعد قيام السلطة الفلسطينية في رام الله؟ ماذا حل بهذا المجتمع أيضاً بعد
قيام هذه السلطة؟
" يمكن القول إن السلطة
الفلسطينية أعادت رسم الجغرافيا الفلسطينية، ورسم خارطة الوطن، كان هذا التزاماً
دولياً يجب عليها الوفاء به. وأصبحت عبارة "كامل التراب الوطني" شيئاً
من أحلامنا الوردية في الماضي، التفكير في (الوطن الكامل) من إفرازات اللاواقعية
في السياسة"
يمكن القول إنّ السلطة الفلسطينية
أعادت رسم الجغرافيا الفلسطينية، ورسم خارطة الوطن، كان هذا التزاماً دولياً يجب
عليها الوفاء به. وأصبحت عبارة "كامل التراب الوطني" شيئاً من أحلامنا
الوردية في الماضي، التفكير في (الوطن الكامل) من إفرازات اللاواقعية في السياسة.
الوطن، اليوم، هو قطعتا الأرض المفصولتين في الضفة الغربية وقطاع غزة. صار الوطن
ضفة وقطاع، فنابلس، مثلاً، ليست شمال الضفة الغربية، بل شمال فلسطين، لأن فلسطين
بتعريف السلطة الفلسطينية لم تعد تشمل الجليل وطبرية وحيفا وعكا وصفد، والخليل
ليست جنوب الضفة، بل جنوب فلسطين، لأن النقب وأم الرشراش صارت خارج الوطن...
بين قطعتي الوطن يتم التفاوض مع
إسرائيل حول ممر آمن لتنقل الفلسطينيين بين "ضفتي وطنهم". إسرائيل أعطت
لكل من الضفة وغزة وضعاً خاصاً من ناحية التحكم والمراقبة، فقد تمنى إسحاق شامير
أن يستيقظ صباحاً ليجد غزة قد غرقت في البحر، وعملياً انسحب شارون من القطاع في
2005، ومنذ ذلك الحين، يتعرض القطاع لتعامل أمني خاص، يصل، في أحيان كثيرة، إلى
إطباق الحصار الكامل ولفترات طويلة، وبلغ شن الحرب في مرّتين: 2008 و2012، وفي
المرّتين، تعرض القطاع للحرب وحده. إذا كانت غزة الهدف الأوّل للحصار والحرب، فإن
الضفة (أرض يهودا والسامرة لدى إسرائيل) هي (إسرائيل الجديدة) والهدف الأول
للاستيطان وإرسال المهاجرين الجدد.
أما المستوى السياسي، فقد حذرت
إسرائيل ساسة رام الله من أي تقارب ومصالحة مع غزة، واعتبرت ذلك إخلالاً بكل
الاتفاقات والالتزامات بين الجانبين، فغزة في عُرف إسرائيل هي وكر الإرهاب في
المنطقة. من الصعب إنكار أن هذا الفصل والتمييز لم يؤثر على تصورات
"الضفاويين" و "الغزاويين" عن بعضهم.
ثنائية (فلسطينيو الداخل) و
(فلسطينيو الخارج) تعززت بقدوم السلطة إلى غزة وأريحا في العام 1994، فأبناء
المخيمات خصوصاً صُدموا من نمط حياة موكب عرفات السياسي وامتيازاتهم الخاصة، والتي
يحصلون على بعضها من إسرائيل. أُعطيت الامتيازات لبعض الشعب وصُب النكال على بعضه
الآخر. كان أبناء المخيمات بشكل أكثر من غيرهم وقود انتفاضة 1987، كانوا الضحية
الأولى للرد الإسرائيلي، لكنهم بعد 1994 لم يجدوا أنفسهم مهمشين فحسب، بل خارج
الحسابات تماماً. كانت رام الله تحديداً تنمو وتتغير فيها الحياة، هذا النمو
والتغير يُشعر المخيم المجاور بالحرمان الاقتصادي والتهميش الاجتماعي والتيه
السياسي. وبدأ ابن المخيم (الفلسطيني الأول) يشعر بالغربة أكثر عن ابن رام الله
(الفلسطيني الجديد).
جعلت الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال
في العام 1987 النخبة السياسية الفلسطينية من شبيبة "فتح" والإسلاميين
واليسار تحاول اللحاق بالشعب، وتشكل اللجان للتنسيق المشترك. لكن أوسلو وقيام
السلطة جعلت الفلسطينيين في مواجهة بعضهم. وإذا كانت للنكبة وذكرى آثارها على
الشعب الفلسطيني، فإن قيام سلطة الحكم الذاتي أحدث آثاراً كثيرة أيضاً، قلب قيام
هذه السلطة واحدة من أقوى العقائد الوطنية في الوطن العربي، وغيّر مرتكزات وثوابت
تحافظ على المجتمع، وولد انشقاقات حادة وغربة للفلسطينيين عن بعضهم وعن فلسطين.
المصدر: العربي الجديد