الصراع بعد 67 عاماً من النكبة
بقلم: علي جرادات
لئن كان مهماً إعادة البحث في الأسباب التي أدت
إلى وقوع النكبة الفلسطينية بنتائجها وآثارها الكارثية والممتدة، فإن الأهم هو إعادة
النظر في استراتيجية المواجهة، ارتباطاً بسببين أساسيين، أولهما أن سياسة "إسرائيل"
ما زالت بعد مرور 67 عاماً على النكبة في حالة عداء تناحري مع المحيط العربي والحقوق
الفلسطينية، ومع أية تطلعات عربية استقلالية وتنموية ووحدوية، ما يشكل أساساً للقول
إن حاضر الصراع ينطوي على حروب محتملة، إذ مادام التناقض لم يُحل، فإن باب الحروب يبقى
مفتوحاً. ما يعني أن من العبث بمكان، تجاهل أن مكونات الخارطة السياسية الصهيونية تنزاح
نحو اليمين، وتتنافس على المواقف الأكثر تطرفاً، وأنها جميعاً، باستثناء حركات هامشية،
ترفض الانسحاب إلى حدود ،67 وترفض وقف الزحف الاستيطاني الاستعماري، وتعد القدس بشطريها
عاصمة أبدية ل"إسرائيل"، وتغلق الباب تماما أمام حق عودة اللاجئين الفلسطينيين
إلى ديارهم. أما السبب الثاني فيتمثل في أن التحالف بين السياسة الأميركية والسياسة
"الإسرائيلية"، هو تحالف استراتيجي بنيوي، وأن ما يبرز بينهما أحياناً من
تباين، يبقى في الإطار الكمي والتكتيكي ولا يصل إلى مستوى التباين النوعي والاستراتيجي.
هذا يعني أن العدوانية والتوسعية "الإسرائيلية" صفة بنيوية في المشروع الصهيوني،
بينما لم تصل الضغوط الأمريكية إلى حدّ تضطر فيه "إسرائيل" إلى إعادة النظر
في توسعيتها وعدوانيتها والوصول إلى حل وسط أو حل تاريخي، بل هي تسحب تجربتها في التطهير
العرقي في مناطق ال48 على مناطق ال67.
لذلك، من الطبيعي أن تبقى الهوية الوطنية التحررية
متأججة في الوعي الفلسطيني، وهي المستندة إلى خبرة عقود من الكفاح، ويستفزها ويستنفرها
مشروع استعماري عنصري إجلائي ما زال يتمسك، عملياً وجوهرياً، بمقولة "أرض بلا
شعب لشعب بلا أرض"، المقولة- الخرافة- التي أخذها مؤسس الحركة الصهيونية هيرتزل
عن متيفورد اللورد البريطاني في أربعينات القرن 19 . ما يعني أن الصراع جوهري ويعيد
إنتاج نفسه دورياً، وأن هدف "إسرائيل" الأساس من وراء إبرام "اتفاق
أوسلو" هو إدارة هذا الصراع وليس حله، بل وإطلاق دينامية تفكيكية للشعب الفلسطيني
واختزالية لحقوقه وخارطة وطنه: فلسطين. فمسيرة عقدين ويزيد من التفاوض لم تنجح حتى
في الحفاظ على الأرض الفلسطينية مركز الصراع، بينما استمرار التفاوض يعيد إنتاج فشله.
أما ما قيل ويقال عن "مرحلة انتقالية" على طريق إقامة دولة فلسطينية وتطبيق
القرار الدولي 194 الخاص بعودة اللاجئين فمجرد تمنيات. إذ ثمة اليوم أغلبية يهودية
في "القدس الشرقية"، وثلاثة أرباع مليون مستوطن في الضفة، ومسطحات استيطانية
وشوارع التفافية تلتهم 6% منها، بينما مسطحات المدن والقرى الفلسطينية لا تتجاوز
12%، ناهيك بما اقتطعه جدار التوسع من أراضيها، وبالتمسك بمطلب اقتطاع منطقة الأغوار،
أي ثلث مساحة الضفة. أما الوعد الأمريكي ب"دولة فلسطينية قابلة للحياة" فمجرد
نثر للوهم، ولا يعني سوى "حكم ذاتي" تتم مقايضته بحق العودة، حسبما تؤكد
وقائع ميزان القوى القائم والتسوية الجارية.
أما عن التعلق بحبال الوهم الناجم عن فرضية تراجع
أهمية "إسرائيل" بالنسبة للولايات المتحدة، ارتباطاً بفرضية أن الأخيرة بصدد
"الانسحاب من المنطقة"، فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، إذ رغم اتساع علاقات
واشنطن مع "الشرق الأقصى"، ورغم انسحابها القسري من معظم القارة اللاتينية
نتيجة المد اليساري، فإنها لا تزال تتشبث ب"إقليم الشرق الأوسط" الذي يحتوي
60% من احتياط النفط العالمي، ويتحكم بالمنافذ المائية للتجارة العالمية بين
"الغرب" و"الشرق"، ويستورد سنوياً أكثر من تريليون دولار سلعاً
عسكرية ومدنية. ما يعني أن "إسرائيل" كانت ولا تزال وستبقى "المصلحة
الحيوية" للولايات المتحدة في المنطقة، كما قال الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش،
و"الكنز الاستراتيجي" كما قال الرئيس رونالد ريغان في زمانه. وكل ذلك من
دون أن ننسى أن ثمة في الوطن العربي، قلب المنطقة، مخاضاً كبيراً، يحمل مشروعات مركبة
ومتصادمة، وفي ضوء نتائجه القريبة يتحدد مستقبل النفوذ الأمريكي وقاعدته الأمامية
"إسرائيل".
أما عن أن "إسرائيل" تواجه، بعد 67
عاماً على إنشائها، مأزقاً بنيوياً استراتيجياً أنجبه فائض الطموح والأطماع والأهداف،
فأمر صحيح لا شك فيه، لكن تعميق هذا المأزق إلى الحد الذي يضطر قادتها إلى الاعتراف
بحدود قوتهم بمعناها الشامل، والقبول بتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع، وليس
التفاوض عليها، يتطلب تغيير استراتيجية إدارة الصراع، عبر مغادرة خيار مفاوضات
"عملية السلام"، واستعادة خيار المقاومة بأشكالها، في إطار مشروع قومي نهضوي
ديمقراطي تقوده مصر المرشحة دون سواها للتفاعل مع الأفق القومي، علماً أن البوابة النموذجية
لشعبية نظام أي قُطر عربي هي البوابة الفلسطينية، بوصفها "قضية العرب الأولى"،
بل وأعدل قضية على الأرض، وفي مقدمة الخاسرين من جراء استنفاذ المشروع القُطري لطاقته .
لكن في الحالات كافة ينبغي عدم نسيان أن الانقسام
الفلسطيني الداخلي يحبط إمكان اندلاع انتفاضة شعبية ممتدة، ذلك أن ما يدور في قطاع
غزة من نموذج شعبي مقاتل لا يتكامل مع ما يجري في الضفة ومناطق 48 من هبات شعبية، ما
يعني أن خيار الوحدة والمقاومة هو السبيل الوحيد لإشعال فتيل انتفاضة "ثالثة"
بوزن انتفاضتي 1987 و،2000 علماً أن الشعب الفلسطيني ملزم في نهاية المطاف بالإجابة
عن سؤال ما العمل؟ فاستباحة الاحتلال لفلسطين، أرضاً وشعباً، شاملة، وشيخوخة النخب
القيادية وانقساماتها العبثية المدمرة تكتسح المشهد السياسي بكامله، ما يعني أن من
الطبيعي أن تستمر المناوشات والاحتكاكات مع الاحتلال وسياساته، أما الصراع الجبهوي
الشامل والممتد فمتطلباته مختلفة، أولها استعادة الوحدة السياسية لشعب يعيش مرحلة تحرر
وطني، ويقترب عدده اليوم من 12 مليون نسمة، وأكثر من نصفه لاجئ ومشتت في أربعة أركان
المعمورة، لكنه لم يُهزم، ولم يسلِّم، ولم يستسلم، بل ظل صامداً يقاوم طيلة نحو قرنٍ
من الصراع، و67 عاماً من نكبة ممتدة، ما يذكِّر بالمقولة الشائعة: "الجيش الأقوى
إن لم ينتصر فهو مهزوم، والمقاومة الأضعف إن لم تُهزم فهي منتصرة".
المصدر: الخليج