عبد الحميد صيام *
نماذج ثلاثة للعنصرية المتأصلة في الطبقة السياسة
اللبنانية ضد الفلسطينيين، وهي التي تواجه الآن انتفاضة حقيقية عارمة، تطالب بالعدالة
واسترداد الأموال المنهوبة والعمل الشريف. فبدل أن يهتم رموز الحكم بالمصائب التي أوقعوا
بلدهم فيها، الذي يقف على شفا جرف يكاد ينهار، هربوا إلى الأمام عاجزين عن استحقاقات
الوضع المتردي، بالبحث عن كبش فداء لحرف الأنظار إلى قضية بالتأكيد خاسرة، بل تسيء
لمروجيها أكثر مما تسيء للفلسطينيين. فقد صدرت وثيقة عن مدير أمن مطار رفيق الحريري
الدولي موقعة بتاريخ 1 مايو 2020 تنص على السماح بعودة اللبنانيين إلى لبنان (زوج وزوجة
وأولاد) ثم تضيف: «بدون السماح بمرافقة الخدم والأشخاص من التابعية الفلسطينية اللاجئة».
ثم جاء الامتحان عندما منع المهندس طارق أبو طه من ركوب الطائرة للعودة إلى لبنان في
مطار دبي، عن طريق أحد ضباط الأمن اللبنانيين، الذي أغلظ القول له بسبب وثيقة السفر
قائلا: «هذه الوثيقة للزعران». صحيفة «الجمهورية» نشرت يوم 13 أبريل، في ذكرى بداية
الحرب الأهلية عام 1975، رسما كاريكاتيريا يساوي بين الفلسطيني وفيروس كورونا. وقبل
هذا وذاك، دعا رئيس حزب الكتائب سمير جعجع، إلى عزل المخيمات الفلسطينية دخولا وخروجا
لحماية اللبنانيين من فيروس كورونا.
مضطرون إذن أن نعود إلى موضوع معاملة الفلسطينيين
في لبنان من قبل النخب السياسية بكافة أطيافها، التي لا تكاد تجتمع على أمر إلا على
المزايدة على تهميش الفلسطينيين واستلابهم الكثير من حرياتهم وحقوقهم، وإطلاق الكلمات
العنصرية التي لا تنم إلا عن نفس مريضة حاقدة لا تمثل إلا صاحبها.
الفلسطينيون في لبنان لا يعرفون وطنا إلا لبنان،
ولدوا فيه وتربوا في مخيماتهم هناك، وتعلموا في مدارس وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين (أونروا) والتحقوا بالجامعات اللبنانية أو العربية أو الأجنبية، على حسابهم
الخاص، وعندما انضموا لسوق العمل والوظائف والمهن الحرة في الخارج، خاصة في دول الخليج
حولوا أموالهم إلى لبنان. ومع هذا ظلت النخب السياسية تنكر على الفلسطينيين دورهم ومساهماتهم
في تقدم لبنان وازدهاره وإبداعاته، بل تتمادى في إلحاق الأذى بهم على المستوى الجمعي
والفردي.
لقد تابعنا ردود فعل الآلاف من اللبنانيين الرافضة
لهذه العنصرية، وانطلقت في لبنان حملات تقول «فلسطين قضيتي»، لأن الغالبية الساحقة
من الشعب اللبناني لا تكن للفلسطينيين إلا الاحترام والمودة. فعندما نتكلم هنا ناقدين
فلا نقصد إلا الطبقة السياسية الفاسدة، التي تواجه الآن تحديا حقيقيا من الشعب اللبناني،
على ما ارتكبته من انتهاكات وسرقات، أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس. وإذا كنا ننتقد
النخب السياسية اللبنانية التي تزايد على بعضها بعضا في موضوع رفض التوطين والمغالاة
في التضييق على الفلسطينيين فإننا بالقوة نفسها، بل أكثر، ننتقد سياسة القادة الفلسطينيين،
الذين أساؤوا للبنان وشعبه وسيادته، وتدخلوا في كثير من الأمور التي كان يجب أن يحجموا
عن الخوض فيها، واستغلوا روح الانفتاح وهشاشة الدولة لمصالح ليست بالضرورة لخدمة القضية
الفلسطينية.
كنا نتوقع أن يوحد وباء كورونا مشاعر الناس ويلغي
العنصرية والطائفية ويعطي الأولوية للتضامن والتعاون
كنا نتوقع أن يوحد وباء كورونا مشاعر الناس جميعا
ويؤجل، إن لم يلغ، مشاعر العنصرية والطائفية والكراهية والفوقية، ويعطي الأولوية للتضامن
والتعاون. لكن هذه الطبقة السياسية، التي توارثت الطائفية والفساد والارتهان للخارج،
لا تفتأ تفاجئنا بكل ما يسيء للاجئين الفلسطينيين الأوائل منهم والأواخر. ومن هنا لا
يمكن الصمت على هذه الإهانة. فمن يدعي أنه ممانع ومقاوم ومدافع عن حق العودة، وضد التوطين،
وملتزم بالمقاطعة، ورافض لوجود الكيان لا يمكن أن يقبل مثل هذه المسلكيات غير الإنسانية.
ومن يقول بغير هذا فليسمعنا صوته. لقد وضع مشروع قرار أمام البرلمان اللبناني عام
1990 وبعد انتهاء الحرب الأهلية لتحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين بعد أن رفعت عريضة
للبرلمان وعليها 150000 توقيع، وعندما حصل التصويت فشل مشروع القرار، لأنه لم يحصل
على الغالبية البسيطة. فلا يقولن أحد إنه مع تحسين الأوضاع الإنسانية للاجئين الفلسطينيين،
ثم لا ينطق بكلمة في البرلمان، ولا يدعو أنصاره وحلفاءه للتصويت.
علاقة الشعبين العربيين الفلسطيني واللبناني مميزة
أبدا، قبل النكبة وبعدها. وقد لخص هذه العلاقة العضوية التاريخية الشاعر محمود درويش
عندما قال في قصيدته «بيروت»: «كأننا أجدادنا نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت». فلا
يوجد من بين الشعوب العربية من حمل السلاح من أجل فلسطين أكثر من اللبنانيين، ولا من
احتضن الثوة الفلسطينية مثل اللبنانيين، ولا من انخرط مع الفصائل الفلسطينية وقاتل
معها ووجه سلاحه ضد أعداء الثورة، مثل اللبنانيين. لقد عاش لبنان عامة والجنوب خاصة
مرحلة نهوض وانكسار الثورة الفلسطينية، دافع عنها وحماها، وساهم في إلحاق الهزائم بالكيان
الصهيوني، ولكنه دفع الثمن غاليا من دمائه ومصادر رزقه. لكن هناك فئات أخرى من الطبقة
السياسة العنصرية، ارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين ودمرت مخيماتهم، وحاصرت مخيمات أخرى
اضطر معها الأهالي لأن يسفوا تراب الأرض أو يأكلوا حيواناتها. لقد وجد في لبنان من
يقول «إن الفلسطيني الجيد هم من يكون تحت التراب لا فوقه»، ولكن أيضا وجد في لبنان
من يقول «إذا كنتم فلسطينيين بالمولد فنحن فلسطينيون بالانتماء». لذا فإن قدر الشعبين
أن يستمرا في المسيرة التصالحية معا، والتحالف ضد الكيان معا، وحل المسائل العالقة
بالحوار، بما يضمن كرامة الفلسطينيين وحقوقهم المكتسبة وأمن لبنان وسيادته.
وبسبب هذه السياسات الرسمية والتضييقات المتزايدة
وحرمان الفلسطيني من أبسط الحقوق، ومنعه من ممارسة 30 مهنة فنية و40 حرفة يدوية، تناقص
عدد الفلسطينيين في لبنان في السنوات الثلاثين الماضية. فقد كان عدد اللاجئين المسجلين
في سجلات الأونروا عام 1950 نحو 110000 لاجئ. ارتفع عددهم في السبعينيات من القرن الماضي
ليصل إلى النصف مليون تقريبا. لكن بعد رحيل المنظمة من بيروت، ومجازر صبرا وشاتيلا
1982، وحرب المخيمات 1985-1987، وأخيرا تدمير مخيم نهر البارد عام 2007، بدأت الأعداد
تتناقص، خاصة في ظل تسهيلات غربية مشبوهة لاستقبال الفلسطينيين وتوطينهم في الخارج.
فمثلا كان عدد سكان مخيم شاتيلا عام 1982 نحو 20000 شخص، انخفض هذا العدد عام 1993
إلى 2500 فرد فقط. أما عن عدد الفلسطينيين الآن في لبنان، فبعكس ما تروج الجهات المعادية
بأنهم نصف مليون، لا يزيد العدد الآن عن 174422 فلسطينيا موزعين في 12 مخيما و156 بؤرة
فلسطينية، حسب إحصاء رسمي قامت به لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني عام 2019. ويعاني
هؤلاء من بطالة تصل إلى18.4% وتصل نسبة الأمية بينهم إلى 7.2%. صحيح أن أعداد اللاجئين
المسجلين لدى وكالة الأونروا يصل إلى 469331 فلسطينيا، لكن الوكالة لا تعرف العدد الحقيقي
الموجود في لبنان. فكثير منهم يغادرون ولا يتخلون عن بطاقات اللجوء كنوع من الوثيقة
الرسمية بحقه في العودة إلى فلسطين.
ويبدو أن هناك صفقة يتم على أثرها تسهيل خروج نحو
مئة ألف فلسطيني خارج لبنان، بالتعاون مع بعض السفارات، واستيعاب نحو سبعين ألف فلسطيني
في لبنان، كجزء من تنفيذ صفقة القرن، مقابل حفنة من مليارات الدولارات التي طبعا ستأتي
من دول الخليج، المنخرطة أصلا في تنفيذ هذه الصفقة. ومن هنا نضع هذه الاستفزازات العنصرية
في إطار التضييق على الفلسطينيين كي تكون الهجرة للخارج حلا مقبولا، بل مغريا بدل المعاناة
المزدوجة في لبنان.
يعرف اللبنانيون أن الفلسطينيين لا يستحقون إلا
المعاملة الكريمة من إخوتهم، وأبناء جلدتهم وأصهارهم، ورفاق سلاحهم في لبنان. فالفلسطينيون
لم يأتوا إلى لبنان طوعا، ولم يتخلوا عن الحلم في العودة إلى وطنهم، الذي كان مزدهرا
ومتطورا أكثر بكثير من محيطه العربي. والكثير من اللبنانيين يعرفون أن للفلسطينيين
أفضالا عديدة على لبنان، لا ينكرها إلا متعصب أو جاهل. فقد حمل الفلسطينيون بعد النكبة
ثرواتهم إلى لبنان، واستثمروا أكثر من 15 مليون جنيه إسترليني فيه، أي ما يعادل مليار
دولار بقيمة اليوم أدت إلى الانتعاش الاقتصادي، وانهيار ميناء حيفا ساهم في تنشيط ميناء
بيروت، وإغلاق مطار اللد أدى إلى توسيع مطار «بئر حسن» المتواضع. كما يحول الفلسطينيون
في الخارج ما قيمته 368 مليون دولار سنويا إلى لبنان. هذا عدا عن الإبداعات الشخصية،
والشركات الكبرى التي أقامها الفلسطينيون، كالبنوك وشركات الملابس والسوبرماركت وكازينو
لبنان، إضافة إلى الفرق الفنية والموسيقى والمسرح وأساتذة الجامعة الكبار. ولا أعرف
كيف سيكون لبنان لو أن فلسطين حصلت على استقلالها، كبقية الدول العربية، وتابعت طريق
النهضة الشاملة التي بدأتها مع بداية القرن العشرين.
* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة
رتغرز بنيوجرسي
المصدر: القدس العربي