القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

العــودة والتعــويض

العــودة والتعــويض

بقلم: حسام شاكر

لماذا يجب على الفلسطيني وحده أن يُقابَل بعروض التهجير وخيارات التوطين؟ لا يحقّ لأحد أن يحتكر جدول الأعمال. وإن مضى بعضهم بعيداً في رسم مسارات التهجير والتوطين بحقّ شعب فلسطين، فإنّ التوازن في الموقف يقتضي بحث خيارات مُقابِلة بالنسبة إلى مجتمع الاحتلال أيضاً.

لا يتعلّق الأمر هنا بأيٍّ من صنوف التهجير أو التطهير العرقي أو اختراع الوطن، بل هي ببساطة عملية "العودة والتعويض" عينها.

إذا كان ربع الإسرائيليين أو خُمسهم يعيشون أساساً خارج فلسطين، فإنّ فكرة عودتهم ذاتها تصبح إجراءً شكلياً على الورق. ولا شكّ في أنه حراك بشري تَسهُل إدارته في مجتمع الجنسيات المزدوجة الإسرائيلي، ومع الأبواب المفتوحة على "أرض الميعاد" الجديدة، الواقعة غربيّ الأطلسي. ولو قيِّض لهرتزل أن يعيش لحظتنا، فلربّما صحّح الخطيئة، فتصوّر "دولة اليهود" غرباً في ولايات أمريكية غير محشورة في معادلة المستحيل في الشرق الأوسط. ولهذا الاستنتاج ما يبرِّره؛ فالطائفة في الولايات المتحدة أكبر حجماً منها في فلسطين اليوم، بعد أكثر من قرن على افتعال البرنامج الصهيوني بما يشتمل عليه من منظومة التهجير والاستيعاب النشطة.

إذا كانت عودة أولئكم ممكنة عملياً، فإنّ التعويض سيكون سخيّاً بحقّ، لو أعيد فقط توجيه الهبات الهائلة التي تُمنَح بهدف استمرار مشروع الاحتلال في المسار المعاكس لمنطق التاريخ. لن يحتاج المانحون إلى "مشروع مارشال" جديد فوق أزماتهم المالية، بل عليهم وحسب، إعادة تعريف "المساعدات" المتدفِّقة بسخاء على القاعدة الحربية الضخمة، المسماة "إسرائيل". ستصبح تلك المساعدات "تعويضاً" لمن يعودون إلى أوطانهم أو يختارون بلدان هجرتهم وراء المحيطات الواعدة، وهي في معظمها ــ لحسن حظّ العائدين ــ حليفة لدويلتهم.

وإذا خشي الظهير الدولي خسرانَ توغّله الاستراتيجي الدائم في قلب المنطقة، فإنّ ما قد يعوِّض عن جدوى حاملة الطائرات هذه، هو استئصال بؤرة الاحتقان التي تفرِّخ المخاطر الوجودية على علاقات المصالح بين الشرق والغرب. وربّما كان الجيران الأوروبيون أقدر على إدراك هذه الموازنة، من سادة الكونغرس الفاقدين البصيرة، الذين يتحسّسون مقاعدهم الانتخابية التي تبدو كأنها امتداد خجول للكنيست. فالمراهنة على المستقبل لا يمكن أن تتعلّق بحاملة طائرات قابلة للغرق، واستعداء شعوب المنطقة الموغلة في التاريخ والباقية في الجغرافيا.

ليست فكرة التعويض بجديدة؛ فعلى مدار نصف قرن أُغدقت "التعويضات" بسخاء. بيد أنّ ما فعلوه كان إسناداً لمشروع الاحتلال في الأساس، أو هي ترضيات سخيّة، وطيّ لملفّات عالقة لا مصلحة للجانبين بفتحها. لكنّ منطق التعويض يستند في أساسه إلى إعادة الأصل للأشخاص المتضررين أو ذراريهم، لا تقديم قيمته المفترضة لدولة بعينها. ولنا أن نتخيّل مستوى العودة اليهودية وهو يرتفع إذا ما عادت عقارات كثيرة العدد، إلى أصحابها المهجّرين في لحظة الغفلة إلى فلسطين، وكثير منها معروف وقائم وموثّق في السجِّلات. هو اتجاه يتناقض مع منحى التهجير الذي اعتمدته الصهيونية، برؤيتها التي تنتزع يهود العالم من جذورهم، وتقطع وشائج الصلة مع بيئاتهم، وتمحو خصوصّياتهم الثقافية واللغوية، وتتناسى انتماءاتهم الوطنية التي تتوزّع على خريطة فسيحة عبر القارّات.

إذا كان إسقاط فكرة "العودة والتعويض" على مجتمع الاحتلال ممكناً منطقاً، فإنّ شبكات المصالح ستتكفّل بإحباط التوجّه، وربّما دفعت إلى تجريمه، رغم مضمونه الإنساني. ولكنّه التاريخ الذي لا يُكتَب دوماً كما يشتهي المتنفذين. وفي منطقة حبلى بالمفاجآت، كما تحقّق الجميع مرّة أخرى منذ بواكير عام 2011، تبدو المفاضلة في المصير المستقبلي قائمة بين التفكيك الآمن لمجتمع الاحتلال، والارتهان لاحتمالات تفكيكه فيزيائياً بملابسات محفوفة بالأشواك.

هو مضمون إنساني يتأكّد حتى من دون استحضار الأثر الإيجابي الهائل لذلك على تفعيل الحقّ الفلسطيني الجوهري في العودة والتعويض، عودة ملايين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم التحاماً بجذور لا يمكن طمسها. بيد أنّ الفارق في المغزى بين تعويض وآخر لا يجدر أن تخطئه عين، بين تعويض شعب فلسطين عن عقود اللجوء والاحتلال، و"تعويض" لإغراء المحتلِّين بكفّ الأذى وترك الديار لأصحابها الشرعيين واستئناف الجماعات المُستجلَبة حياتها في سياقاتها البيئية الطبيعية، لا المُفتَعلة على حساب الآخرين. إنها باختصار "عملية سلام الشرق الأوسط"، التي على الأرجح، لن ترغب الرباعية في دراستها، رغم أنّ خريطة طريقها موصلة بحقّ إلى الوُجهَة.

المصدر: مجلة العودة – العدد 51