القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

«الفراشة التي لا تحترق» كيف أصبح محمود درويش أهم شاعر فلسطيني؟!

«الفراشة التي لا تحترق» كيف أصبح محمود درويش أهم شاعر فلسطيني؟!

بقلم: ياسر علي

في حضرة الموت الذي أخذ من الثقافة الفلسطينية إحدى أعلى قاماتها، ننحني أمام كلمات الرثاء وخطب المديح، ونتردد في كتابة دراسة موضوعية عن الشاعر الراحل محمود درويش دون التأثر برياح الحزن التي هبّت على المجتمع الثقافي في التاسع من آب/ أغسطس 2008.

من السذاجة القول إن المصدر الوحيد لنجومية أي شخص هو صفاته الذاتية أو المميزات الفنية لشعره. كذلك فإن حصر الأمر بالعوامل المساعدة فقط أكثر سذاجة.

ومن نافل القول الحديث عن شاعرية محمود درويش، غير أن قراءة متأنية في تشكّل الصورة يمكن من خلالها -في محاولة ابتدائية- وضع النقاط على حروف هذه النجومية.

نجومية الثقافة تحتاج إلى الإعلام، لكن مقتلها في الإعلان، فـ«تسليع الثقافة» يهبط بها إلى مستوى «نجوم» الفن في هذه الأيام. والفرق هنا بين الإعلام والإعلان، أن الإعلام [الصادق] في مراحله المتوسطة يواكب الحدث ويروّج له بالنقل الموضوعي. أما الإعلان فهو يصنع للمنتَج وجهاً غير الذي هو عليه، أو يصعد بالمنتجات الرديئة إلى مصاف «نجوم الفن».

من هنا نرى أن محمود درويش كان موجوداً دائماً تحت عين الإعلام، وحيثما كان الاهتمام بالحدث الفلسطيني وفي المكان الذي أمكن تجميع أكبر قدر من الإعلام المؤيد للقضية الفلسطينية من مصر إلى لبنان إلى تونس إلى رام الله، كان درويش موجوداً بموهبة فذّة وشاعرية نادرة وقدرة مميّزة على النظم وغزارة في الإنتاج، سببه التفرغ شبه الكامل للشعر، ضمن معادلة إنتاجية واضحة «المزيد من الوقت يعني المزيد من الإنتاج (الشعر)».

التشابه مع المتنبي

كثيرون، في حمّى الوفاة وحزن الفراق، بالغوا في اعتبار أن الثقافة العربية لم تنجب منذ المتنبي مثل درويش، متجاوزين عن آخر عمالقة العصور العباسية (المعرّي)، وأول عمالقة ما بعد الانحطاط (شوقي).

لطالما شغلني موضوع تشكّل صورة القيادي والنجم، وكان المتنبي أحد الذين كنت أضعهم في اعتباري دائماً عند الكتابة عن صورة الشاعر، حيث كان المتنبي يهتمّ جداً في إيصال الصورة الحسنة عن شعره.

وفي النقاط التالية سنجد غرابة التشابه في بناء نجومية المتنبي ودرويش:

أولاً: الكاريزما التي تبحث عن فترة بناء الشخصية دائماً، وتبحث في بدايات الشخص المقصود. شخصية الثائر المظلوم المنبوذ (لقب المتنبي جاء من بيت شعر شبّه نفسه بـ«صالح في ثمود» منبوذاً رغم أنه نبي). أما درويش فكان الفقير المكافح المنبوذ في ظل الاحتلال «طردوه من كل المرافئْ. أخذوا حبيبته الصغيرة، ثم قالوا: أنت لاجئْ» فحقق حريته بالخروج من فلسطين!

ثانياً: الوجود في مكان الحدث، وهذا ما فعله المتنبي، في بلاط سيف الدولة، قريباً من السياسيين المحبوبين، غير مخالف لهم مهما كانت ملاحظاته عليهم. وهذا هو ما نقل محمود درويش، من الداخل إلى مصر فلبنان فتونس فباريس فرام الله. وهذا ما يستدعي التفصيل في (ثالثاً).

ثالثاً: الوجود في مناطق السخونة (الحروب والكفاح) وبقع الضوء (الإعلام والثقافة والنجومية)، ولعل أكثر ما يشبه هذه الفكرة هو القنديل المضيء بالنار، يتميّز بالسخونة والضوء، ووجود الفراشات قربه يثير الانتباه إليها. إلا أن هذه الفراشات نوعان: فراشة تقترب أكثر مما يجب فتحترق (كأبي فراس الحمداني الذي قاتل وأُسر)، وكراشد حسين (الذي قُتل في نيويورك). وفراشة تعرف كيف تستفيد من الضوء والحرارة بعيداً عن اللهب (كالمتنبي ودرويش).

رابعاً: ولكن كيف استفاد هؤلاء من الحرارة والضوء بعيداً عن اللهب؟ ببساطة: تبنوا مشروع المقاومة والقتال ضد الأعداء. وكان هذا التبنّي هو خلاصة وسائل النجومية وذروتها، فالمقاومة هي ذروة جهد الأمة «ورأس سنام» دينها، حيث إنها تجبّ مساوئ قادتها وروّادها، وهذا هو الحال الذي كانت عليه الدولة الحمدانية (التي لقيت تأييداً نادراً في العالم الإسلامي رغم أنها كانت دولة شيعية في بحر من الدويلات السنية). وهذا الحال هو الذي كانت عليه الثورة الفلسطينية في السبعينيات. وهذا ما حققه الشاعران النجمان حيث تكرّس الأول شاعر الدولة الحمدانية الأول، والثاني شاعر الثورة والقضية الأول.

لا أقول هنا إن الابتعاد عن اللهب يعني الابتعاد عن القتال، بقدر ما يعني ترك مسافة بينهم وبين المسؤول السياسي.

ما ذكرناه، هو ما يتعلق بالعوامل المساعِدة لموهبته وشاعريته. أما النقاط التي تتعلق بشكل شعره ومضامينه، فلها تأثير كبير، يدلّ على أن نظرية «الفراشة التي لا تحترق» قائمة أيضاً في الجوانب الإبداعية في شهرته.

خامساً: كان المتنبي يلقي الدروس النقدية في بعض مساجد الأمصار عن شعره الذي كان يحمله في مجموعة قراطيس فيها عدة نسخ من دواوينه، لم يكن يتردد في تنقيحها دائماً، ما يعني أن النسخة التي كان يحملها هو معه هي النسخة الأصلية والشرعية والمنقّحة والمعتمدة. وكان يمكنه التعديل عليها ساعة يشاء، في حين أن درويش خرجت منه صلاحية تعديل ما في أيدي الناس من الدواوين المطبوعة، فتبرّأ من نصف شعره، حين قال: «لو قدّر لي أن أراجع شعري لتبرّأت من نصفه». فقد اهتم درويش بتطوير مضامين شعره بشكل بات مع كل تطوّر يشعر بأن ما كتبه في الماضي متخلف عن مستواه الفني الحالي.

فضلاً عن أن درويش كان يجتهد من أجل تطوير شعره ويحرص على أن يتساوق مع تطوّر ثقافته التي كانت سريعة التوسّع بفعل القراءة. وقد أخذ البعض على حرصه هذا بأنه كان مصطنعاً أحياناً (رغم مستواه العالي) حيث كان يلزم نفسه به إلزاماً. إذ لم يكن من الضروري أن يكتب درويش عن ملحمة جلجامش لأنه قرأ عنها (فضلاً عن سعيه ليصبح شاعر إنسانية وليس شاعر فلسطين وحدها، فقد ضاقت عليه فلسطين في مراحله الأخيرة.. مع أن هذه تسجّل له – كما يقول الناقد إبراهيم العريس- حيث استطاع الخروج بالأدب الفلسطيني من ضيق القضية إلى فضاء التراجيديا الإنسانية كالإغريقية وغيرها).

غير أن هذا التطوّر السريع، كان له علاقة -كما المتنبي في دروس المساجد- باتخاذ درويش من الشعر مهنة يخصص لها كل صباح عدة ساعات للكتابة، كأن الإلهام يأتي في أوقات معروفة وشيطان الشعر موظف يجلس على طاولتنا كل صباح.

سادساً: حمل المتنبي راية التجديد في معاني القصائد ومضامينها دون أن يخرج طبعاً عن الشكل والأوزان. وكذلك فعل درويش الذي حمل همّ التجديد، غير أنه بقي محافظاً على الوزن ولم يخرج عنه إلا نادراً.. وهنا نفرّق بين التجديد والحداثة التي حلّت كل ضوابط الشعر ومعاييره فقضت عليها ابنتها «ما بعد الحداثة».

محمود درويش أدرك أن التخلّي عن الوزن والتفعيلة بشكل أساسي والتخلي عن القافية بصورة أقل، سوف ينزع عن شعره الغنائية التي كانت أحد أهم أسباب نجاحه من خلال أغاني الفنان مارسيل خليفة (الذي خرج مثل درويش من دائرة القضية إلى الدائرة العالمية، التي يعمل لها بجدّ، ورفض -مثلما رفض درويش «سجل أنا عربي»- غناء بعض أشهر أغانيه الثورية في حفلات خصصها لـ«جدل» العود فقط). من «خبز أمّي» و«جواز السفر» و«ريتا» و«أحمد العربي» و«بيروت» و«تصبحون على وطن».

من أهم عناصر شهرة درويش هي الغنائية الفائضة في شعره، ولم تكن الغنائية ممكنة بهذا القدر دون التزام الأوزان.. فهو «الفراشة التي لم تحترق» بوهج الحداثة، ولكنه استفاد من ضوئها وحرارتها..

هذا الأمر، تنبّه له نزار قبّاني الذي لم يخرج عن الوزن والتفعيلة إلا نادراً، فكان الوحيد الذي تنافس مع درويش على النجومية التي وفّرتها لهما الغنائية الفائضة، وتميّز قباني بأغانيه التي أدّاها كبار الفنانين العرب (أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم) وما زالوا «نجوم اليوم» يتسابقون على ودّ الورثة لغناء قصائده، فيما كانت أغاني القصائد الدرويشية مقصورة على اليساريين.

وهذان الشاعران هما الوحيدان اللذان عاشا من مردود مبيعات كتبهما. حيث كان لقبّاني دار نشر مستقلّة لمجموعاته، فيما حقق درويش في مبيعاته أكثر من مليون كتاب وترجمت قصائده إلى 22 لغة، ونقل طباعة ديوانه من دار العودة في بيروت إلى دار رياض نجيب الريّس، لأن دار العودة عجزت عن دفع 30 ألف دولار له كحقوق على الجزء الثالث من المجموعة الكاملة، علماً بأنهم ناشرو حوالى خمس عشرة طبعة من الجزأين السابقين للمجموعة.

سؤال

هذا الحزن الكبير، وهذه المشاعر التي اجتاحت جمهور الشاعر الكبير، هل ستؤدي إلى ما بعدها؟ هل نحن ذاهبون إلى أسطرة الشاعر الراحل؟ وإدخاله في الرموز الوطنية الفلسطينية؟

بتقديري، أن الكاريزما الوطنية التي بناها درويش ستضمر، فيما سيبقى إبداعه الأدبي قائماً وراسخاً. فقد تعوّد شعبنا تقديس الشهداء، ولم يتعوّد تقديس من ماتوا في الفراش. حتى إن الرئيس الراحل ياسر عرفات، كرّست رمزيته عند محبيه الشكوكُ التي حامت حول دور شارون في قتله بالسمّ.

فلو أن درويش مات قتلاً، كما هو حال غسان كنفاني، لتحققت أسطرته ورمزيته تلقائياً على مستوى العالم كله وليس فقط على مستوى الشعب الفلسطيني. ولكنه مات على فراشه، لذلك ستتلاشى المبالغات في تقديس الرمز، ليقتصر لاحقاً على القيمة الإبداعية للشاعر، وهي ليست بالقليلة.