الفلسطيني الجديد وأمل العودة
جمال حاج
حمل الجيل الأول الذي شهد نكبة عام 1948 همّ العودة
سنوات طويلة، بعد أن حمل مفتاح داره وبضع حاجات على عجل، ظنّاً منه أن العودة لن تطول،
ولن تزيد عن أيام أو أسابيع قليلة، فالقوات العربية المغوارة عقدت عزمها بتدمير المحتل
وسحقه خلال ساعات، والقوات العربية الباسلة ذاهبة في نزهة أياما معدودة، ثم تعود مظفرة
بالنصر، بعد سحق المعتدين وردهم على أدبارهم خاسرين.
أقيمت خيام اللجوء، وما إن دار الحول، حتى بدأت
تتحول إلى مبان من "بلوك" مسقوفة "بالزينكو"، أعطيت مسميات وانتشرت
في فلسطين وبلاد الشام، عندها بدأت حُقن المخدر تأخذ مجراها من جسد الفلسطيني المشرد،
وبدأ يقرأ القصة على حقيقتها، والمؤامرة في فصولها الكثيرة الواسعة، وبدأ يأخذ زمام
الأمر بيده، لينخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية، بأشكالها ومسمياتها، لتسير المؤامرة
جنباً إلى جنب، صعوداً وتطوّراً، ويبدأ القريب والشقيق بالتخلي عن الدعم لقضية الأمّة
يوما بعد يوم.
لقد عملت الدنيا بأكملها لترويض الفلسطيني وصقله،
وفق معادلةٍ يكون في نهايتها قد قلّم أظافره، وتخلّى عن أنيابه، ليسلم رقبته تحت عناوين
براقة ظاهرها الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، لكنّ باطنها دوّامة استمرت أكثر
من عقدين ليجد نفسه الفلسطيني الجديد وفق المواصفات الدولية المرسومة من الماكرين والدهاة
الذين دفعوه، وغرّروا به، ليبقى وحيداً عاجزاً، خاليا من كل عون أو قوة امتلكها في
أي يوم.
حرص العالم المنافق الذي رعى مسيرة التسوية السلمية
على تحويل الفلسطيني الثائر صاحب الحق، إلى فلسطيني ينشد حقه على أبواب المؤسسات الدولية
التي عجزت في كل الأوقات عن تطبيق قراراتها لصالح القضية، وعجزت عن تحقيق أي واقع يخدم
هذه القضية العادلة.
ولكن في المشهد صورة أخرى، يرى فيها المراقبون لمسيرة
القضية الفلسطينية والداعمون لها؛ أملاً ما قد يبث الحياة من جديد في دماء قضية قد
تجمّد في عروقها، فبعد أن أيقن الفلسطينيون أنّ التسوية التي قبلوا بها خلال 25 عاماً
قد كانت وهماً، ولم تحقق لهم أي أمل حلموا به عند التزامهم بها، بدأت الهبات التي تتصدى
للإجراءات الاحتلالية واحدة تلو الأخرى، فمنذ ثلاث سنوات، لم تهدأ الأرض الفلسطينية
من المواجهات صعوداً وهبوطاً، حيث بدأت بالطعن والدعس ثمّ عمليات بأشكال مختلفة، إلى
مسيرات ومظاهرات أسبوعية.
إلاّ أنّ ما يحدث اليوم في قطاع غزة المنتفض، فيما
أطلق عليه "مسيرة العودة"، يحمل معانٍ ودلالات تختلف عن كل ما سبق من أشكال
النضال والمقاومة الفلسطينية، حيث لأول مرة منذ عشرات السنين، يكون عنوان العمل الجماهيري
المقاوم هو العودة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وتكون ساحة هذا العمل
هي الحدود المباشرة لتلك الأراضي التي صودرت عام 1948.
يرى المتابعون لتاريخ القضية الفلسطينية أنّ أهم
انعكاس لهذا الحراك هو إنعاش الذاكرة الفلسطينية للأجيال القديمة والحالية، وأنّ هذا
الحراك يضع إصبع الاتهام مباشرة نحو الاحتلال، ويرى أنّه السبب المباشر لكل ما يعانيه
الفلسطيني، بسبب احتلال أرضه، وما نتج عنها من آثار لهذا الاحتلال.
كما يقول هذا الحراك، أنّ الفرصة الذهبية للاحتلال
في تثبيت اتفاق على جزءٍ من أرض فلسطين قد ولّت بسبب تعنته وعنجهيته، وعدم اعترافه
بالحق الفلسطيني، صغيراً كان أم كبيراً، وأن الفلسطينيّ الجديد هو الفلسطينيّ الذي
يرى المجدل وبئر السبع ويافا وحيفا قبل رام الله ونابلس والخليل.
كما يقول هذا الحراك لكل الدول التي رعت مسيرة التسوية
إنّ الحيلة والخداع الذي قامت به خلال السنوات الماضية وغرّرت به الفلسطيني، قد انكشف
وبانت سوأته، وأنّ التنازل عن حقوق الفلسطينيين التاريخية خطأ يجب التراجع عنه؛ لأن
العالم لا يولي أيّ أهمية للنيات الفلسطينية التي أرادت، في لحظةٍ ما، أن تنجز اتفاقا
وصلحاً تاريخيّاً، ولم تتمكن دول العالم أجمع من الوقوف أمام راعي عملية السلام المتحيّز،
وبالتالي فشلت كل المحاولات لإنعاش هذه العملية السلمية المنتهية، أوروبية كانت أو
عربية أو غير ذلك.
لقد أظهر هذا الحراك السلميّ صورة الفلسطينيّ الجديد،
المتمسك بكل حقوقه، والمتجذّر في أرضه، والمبتكر أشكالا من المقاومة لم تعهدها ثورات
العالم قديمها وحديثها، فهي على بساطتها أربكت حسابات الاحتلال، وهو كل يوم يبحث عن
طريقة تنهي هذا الحراك قبل الوصول إلى 15 أيار، الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية الكبرى.