الفلسطيني في سورية شاهد جديد على حقيقة راسخة!
بقلم: ساري عرابي
تميز اللاجئون في سورية بعدد من السمات التي جعلت
حضورهم في البلد "المضيف" مختلفاً عن شركائهم في محنة اللجوء في بلاد عربية
أخرى، رغم الثقل الكبير لسورية في المعادلات الإقليمية، بما في ذلك الموضوع الفلسطيني،
وخلافها التاريخي مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، والتيار الرئيسي في الحركة الوطنية
الفلسطينية الذي مثلته حركة فتح في حقبة ماضية، والذي وصل إلى حد الاصطدام بعد دخول
القوات السورية لبنان عام (1976)، ودعم الانشقاق الكبير في حركة فتح وحصار عرفات في
طرابلس من قبل فصائل فلسطينية محسوبة على سورية، وهو ما انتهى بالقطيعة بعد إخراج عرفات
من سورية عام (1983)، وهي القطيعة التي أخذت مداها بعد توقيع اتفاق أوسلو عام
(1993).
ربما كانت ثمة مجموعة من الأسباب الجوهرية التي
حالت دون اصطدام المخيمات الفلسطينية بالمجتمع السوري، حكومات أو شعباً. منها غياب
النزعة العنصرية لمصلحة النزعة الوحدوية عند الشعب السوري، الذي اتسم بالعروبة الفطرية،
ومنح الفلسطينيين حقوقهم الكاملة، عدا الجنسية وما يترتب عليها من حقوق سياسية، وهو
الأمر الذي تحصل منذ قبل حكم البعث، وبقي مستقراً في ما تلا ذلك من تحولات سياسية في
سورية، وهو ما سهل من اندماج الفلسطينيين بالمجتمع السوري الدافئ والمضياف، مع تراكم
بعض الإجراءات التمييزية من طرف الحكومة السورية، كتعقيد عملية تملك الفلسطيني للسكن،
أو الحيلولة دون وصول الفلسطيني إلى رتب وظيفية عالية، وهذا بخلاف ما كان في الماضي،
بيد أن هذه الإجراءات لم تجرح في أصل الاحتضان المميز الذي لقيه الفلسطينيون في سورية.
على المستوى الفلسطيني، لم يتمدد الحضور الفلسطيني
سياسياً أو عسكرياً خارج المخيمات، ولم يتخذ شكل التسيب المسلح، حتى في زمن عنفوان
الثورة الفلسطينية، لاندماج مجتمع المخيمات داخل سوق العمل السوري، الأمر الذي جعل
فلسطينيي سورية أقل اعتماداً على موارد منظمة التحرير، والفصائل الفلسطينية الأخرى،
هذا فضلاً عن قوة الدولة السورية وأجهزتها الأمنية، التي تمكنت من ضبط وجود الفلسطينيين
في سورية، وتحديد صيغ عملهم السياسي من خلال الفصائل الفلسطينية الموالية لسورية، ومنع
حركة فتح من العمل الرسمي داخل سورية لفترة طويلة من الزمن.
في هذا الواقع، تشكلت حالة فلسطينية خاصة؛ فثمة
لجوء فلسطيني لم يصطدم بالدولة أو بالشعب في البلد المضيف، ولم يعانِ التمييز العنصري،
ويعيش في بلد لا تزال بعض أراضيه محتلة من قبل العدو الصهيوني، ويمتاز بسياسات خارجية
اختلفت عن سياسات مجمل الإقليم العربي، وخاصة في دعم المقاومة العربية للعدو الصهيوني
(الفلسطينية واللبنانية)، وهو وجود لم يملك أية تمثلات سياسية طاغية على مستوى الساحة
السورية، بخلاف ما حصل في الأردن ولبنان، لكنه لا يملك حق المواطنة، وراقب بقلق على
مدار فترة طويلة توترات العلاقات السورية - الفلسطينية الرسمية، ما جعله متمسكاً بهويته
الوطنية الفلسطينية، مع استقلالية واضحة عن مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية.
فمجتمع اللجوء في سورية، وإن تعاطف مع حركة فتح
بصفتها ممثلة الهوية الوطنية الفلسطينية، فإنه اختلف مع الخط السياسي لهذه الحركة،
وخاصة بعد انقلابها على خطها السياسي الأصيل، وانتقالها بثقل الحركة الوطنية الفلسطينية
إلى الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب قضية اللاجئين الذين صاروا هامشاً في السياسة
الرسمية لقيادة حركة فتح التي هي ذاتها قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، وهو
في المقابل لم يتعاطف مع الفصائل الموالية للنظام السوري، التي لم يعد لها أي فعل نضالي
حقيقي، وارتبط وجودها بتبعيتها للنظام السوري، بحيث إنها لا تملك أي عناصر تحمي وجودها،
إن فكت ارتباطها بهذا النظام، وخاصة أنها لا يوجد لها امتداد تنظيمي في داخل فلسطين،
بينما فصائل اليسار الفلسطيني الأقل ارتباطاً بالنظام السوري، كالجبهتين الشعبية والديموقراطية،
لا تملكان من الحظوة الشعبية، أو الموارد الكافية، أو العلاقات الإقليمية، ما يجعلهما
فاعلتين قادرتين في أي شأن، بما في ذلك داخل مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية.
أما حركة حماس، التي تمتعت بعلاقات قوية مع النظام
السوري، وخاصة بعد خروج قيادة مكتبها السياسي من الأردن في عام (1999)، وتوافرت على
إمكانات جيدة للعمل، وموارد مالية مهمة، فإنها لم تعمل على بناء جسم تنظيمي لها بين
اللاجئين الفلسطينيين في سورية، فلم يتجاوز جسم الحركة في سورية القيادة، والأجهزة
التنظيمية، والمؤسسات المتنوعة، وهذا في كل الأحوال دون الجسم التنظيمي بكثير.
ربما كانت ثمة أسباب دفعت حماس إلى احترام حساسيات
الدولة المضيفة تجاه تنظيم إسلامي ذي مرجعية إخوانية، فامتنعت عن بناء جسم تنظيمي لها
في سورية، فضلاً عن الأسباب التاريخية المتعلقة بنشوء الحركة داخل فلسطين المحتلة بالأساس،
واهتمام قيادتها في الخارج بتوفير سبل أشكال الدعم والإسناد والتمكين المتنوعة لجسمها
المركزي في الضفة والقطاع، وهو الأمر الذي تعزز بعد فوز الحركة في الانتخابات التشريعية
في عام (2006) وما نتج منه من تطورات أفضت إلى حكم حماس لقطاع غزة، وتكريسها مواردها
التنظيمية لهذه المنطقة الجغرافية من الوطن.
في كل الأحوال، ثمة خصوصية ناشئة عن علاقة جدلية
بين ظروف ذاتية للاجئين الفلسطينيين في سورية، وطبيعة علاقة المجتمع السوري بهم دولة
ومجتمعاً، طبعت الحضور الفلسطيني في سورية؛ فعلى عكس ما حصل في الأردن ولبنان، حالت
هذه الخصوصية دون أي صدام بين المخيمات الفلسطينية والبلد المضيف، ومنعت أن يدفع اللاجئون
الفلسطينيون ثمن مواقف القيادة الفلسطينية الرسمية، على خلاف حالة الكويت المريرة،
كما حالت هذه الخصوصية دون معاناة الكراهية والعنصرية التي عانها الفلسطينيون في لبنان،
أو في العراق بعد الاحتلال الأميركي.
بيد أن الفلسطيني، كما فلسطين الباقية وحيدة من
زمن الحقبة الاستعمارية المباشرة، ولا يزال يدفع ثمن سايكس بيكو، وتردي الحالة العربية،
وضعف الحركة الوطنية الفلسطينية، لن يكون مختلفاً تمام الاختلاف في سورية، فسيُنظَر
إليه كحلقة ضعيفة في معادلة له وجود فيها، وإن كان قهرياً بغير اختيار منه. ومن ثم
ستظهر النزعات الأنانية المؤسسة على سايكس بيكو، والمتنكرة لشعارات الإسلام أو العروبة،
حينما تهتم الأطراف باستغلال الفلسطيني في النزاع السوري دون مراعاة ظروفه ومتطلبات
قضيته، وليس أدل على ذلك من تحميل الفلسطينيين مسؤولية الأحداث في بداياتها من قبل
رسميين سوريين وإعلاميين مرتبطين بالنظام السوري!
ولا يختلف الأمر كثيراً حينما تسعى الأطراف المختلفة،
إلى انتزاع موقف بالانحياز من القوى الفلسطينية المؤثرة، وذات الصدقية العالية، والفعل
النضالي الكبير، بقدر مفرط من المن والأذى، كما حصل مع حركة حماس التي طالبها أكثر
من طرف في النزاع السوري باتخاذ موقف، وهو ما من شأنه أن ينعكس بشكل أو بآخر على قضية
اللاجئين، وأن يفتح الباب في المستقبل لدفع الفلسطينيين إلى اتخاذ مواقف في بلاد عربية
أخرى.
تجلى إقحام الفلسطينيين في الأزمة، بتسليط النظام
السوري بعض الفصائل الفلسطينية الموالية له على المخيمات الفلسطينية، في سياق جهده
السياسي والأمني والعسكري لقمع الثورة السورية، بينما لم تراع بعض المجموعات المسلحة
المعارضة للنظام خصوصية المخيمات الفلسطينية، ومن ثم تعرضت هذه المخيمات للقصف كما
هو شأن بقية المدن والبلدات السورية.
وهذا لا يعني بالضرورة أن يحجم الفلسطينيون في المخيمات
عن إغاثة وإسعاف ومد إخوانهم السوريين بما يمكن من عون إنساني، بل هذا واجب الأخوة
والجيرة، وما حصل بالفعل، ولا يعني أنه يمكن منع الفلسطينيين بشكل فردي من الانخراط
في الأحداث، لكن الحديث عن إقحام (الكتلة الفلسطينية) بمخيماتها في هذه الأحداث.
فلسطينياً، كانت القيادة الفلسطينية، سواء تلك التي
تمثلها حركة فتح، أو التي تمثلها حركة حماس، عاجزة عن فعل أي شيء للاجئين الفلسطينيين
في سورية، والحيلولة دون ازدياد معاناتهم، تماماً كما لم تفعل شيئًا ذا قيمة للاجئين
الفلسطينيين الذين طردوا من العراق، أو لسكان مخيم نهر البارد الذين لا يزالون في العراء.
قد تكون الفصائل، والقيادات الفلسطينية، عاملاً
ضعيفاً في الصراعات الجارية في الإقليم، وحسابات الدول العربية المختلفة، لكن هذا لا
يعني أنها استنفدت كل ما يمكن فعله، وهذا لا يعني الكف عن تذكيرها بضعف موقع اللاجئين
عموماً في سياساتها، وضرورة إعادة النظر في تمركز الحركة الوطنية في الداخل، وتحول
فصيليها الأساسيين إلى سلطتين ترعيان حصراً سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.
والآن، نلاحظ كيف جاء الدور على اللاجئ الفلسطيني
في سورية، كي يؤكد أنه ليس ثمة استثناء فلسطيني؛ فالمعاناة قدره حيث كان، وسايكس بيكو
يلاحقه بلا رحمة، بينما حركته الوطنية مستمرة في عجزها، خاضعة لقهر حسابات عربية تستخدم
الفلسطيني أكثر مما تخدمه، وهي التي كانت سبباً أساسياً في نشوء قضيته واستمرار معاناته،
بيد أن الأمل، أن يكون هذا الشاهد السوري أهون الشواهد ضرراً وأذى، وعلى أمل ألا تتبعه
شواهد أخرى!