الفلسطينيون أمام تأهيل مؤسسة مهجورة
بقلم: محمد خالد الأزعر *
أوكلت تفاهمات المصالحة الفلسطينية قضية تفعيل المجلس الوطني
الفلسطيني إلى ما يسمى بالإطار القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المكون من
أمناء الفصائل وما تبقى من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة وبعض الشخصيات الوطنية
العامة.
بين يدي آخر اجتماعات هذا الإطار في القاهرة في
8 شباط (فبراير) الماضي، وقع تضارب في التصريحات بين القائلين إن اللاجئين
الفلسطينيين في الأردن وسورية ولبنان سيستثنون من المشاركة بالتصويت المباشر في
انتخابات المجلس المقبل، وبين الممانعين لهذا الاستبعاد، الرافضين اختيار ممثلي
هذه الساحات بصيغة التوافق.
لا يمثل هذا التعارض سوى افتتاحية لقائمة من
القضايا والتساؤلات الجدلية، أو حتى الخلافية، التي ستتعين مواجهتها والإجابة عنها
من لدن المعنيين بتقعيد المجلس على سكة الجدارة والفعل في بيئة متغيرة... وبالنظر
إلى طول فترة هجران المنظمة والقعود الإجباري لمؤسستها التشريعية، فإن هؤلاء أمام
مهمة ليست باليسيرة أو سهلة المعالجة. وعليه، لا ينبغي لنا أن نمل سريعاً أو أن
نصاب بالإحباط إذا ما امتد طويلاً أجل التشاور والتحاور والأخذ والرد بخصوص حال
هذه المؤسسة ومآلها، التي لا يصلح شأن المنظمة إلا بصلاحها.
فالمجلس الوطني هو السلطة العليا للمنظمة... هو
الذي يصوغ سياساتها ومخططاتها وبرامجها، ولقراراته قوة القوانين الدستورية في
النظم المعتادة. وهو الذي ينتخب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة الذي يناط به
اصطفاء بقية أعضائها... إنه باقتصاب قلب العملية السياسية الفلسطينية كما تبلورت
في المنظمة منذ 1964.
كذلك يستدل على المكانة السامية لهذا المجلس من
أن أكثر زعماء المنظمة كارزميةً، أحمد الشقيري ثم ياسر عرفات، ظلا في ذروة مجدهما
القيادي حريصين على تغطية تحركاتهما وسياستيهما بقراراته... وكانا عندما يريدان
الإفلات من سطوته، يجتهدان في تفسير هذه القرارات بأساليب توافق مرادهما. وكان ذلك
في حد ذاته يعني تحسبهما لقوة هذه المؤسسة.
والحق أن الصفة التمثيلية للمجلس الوطني،
المكتسبة من طريقة تشكيله وتكوينه، هي التي أسست مطولاً لحقيقة تمثيل منظمة
التحرير للشعب الفلسطيني وميزة التحدث باسمه وباسم قضيته الوطنية. لذا، فإن أي
توجه لصيانة هذه الحقيقة راهناً ومستقبلاً، لا بد له من التشديد على صدقية تمثيل
المجلس الوطني للتيارات الفلسطينية الفاعلة سياسياً ومدنياً في ضوء المياه الكثيرة
التي مرت خلال العقدين الأخيرين.
لتوضيح هذه الموضوعة، نلاحظ أن تشكيل المجلس
الوطني مر بطورين بارزين: أولهما، هو انتقاء أعضائه عبر لجان تحضيرية داخل الوطن
وفي مراكز التجمعات الفلسطينية بالدول المضيفة. وثانيهما، هو اختيار الأعضاء على
خلفية انتماءاتهم التنظيمية فيما عرف بنظام المحاصصة الفصائلية منذ 1969. مؤدى ذلك
أن المجلس لم ينشأ يوماً عن «انتخابات حرة مباشرة»، طبقاً لمواثيق منظمة التحرير
ونظمها الداخلية. والمدهش أن المناظرات الفلسطينية المتفاعلة راهناً، لا تشير إلى
أن واحدة من هذه المواثيق تتضمن الكيفية التي يتم بها انتخاب هذا المجلس بالتفصيل،
وقد صـدرت بالقدس في 17/7/1965. لكن الأسلـوبين المذكـوريـن كفلا إلى حد بعيد
الدفع بصحة تمثيل المجلس للفلسطينيين... وظل هذا الادعـاء مقبولاً لدى كل القوى
الفلسطينية والعربية والدولية المعنية لفترة ممتدة... فترة يفترض أن سقفها توقف
عند بروز قوي سياسية تشغل مساحة نضالية وشعبية واسعة، راحت تعمل خارج المنظمة
ومجلسها الوطني، على رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
حال تكلّس
القصد أن وجود هذه القوى وتطور سيرورتها ورسوخ
قدمها على النحو الذي نسمع ونرى، أدى إلى جرح مفهوم تمثيل المجلس الوطني للواقع
السياسي والكفاحي الفلسطيني عبر منظمة التحرير، ونال من هذا المفهوم أيضاً تكلس
هذا المجلس وعطالته لحوالى عشرين عاماً، وانكماش دوره إلى حد الجفاف، وضمور عدد
أعضائه لغياب بعضهم بقدر الموت أو الشيخوخة أو بإرادة الاعتكاف والابتعاد عن العمل
العام.
مؤدى ذلك كله التشديد على ملاحظتين:
الملاحظة الأولى، أن قيام المنظمة وقعودها،
حيويتها وخمولها، من الأمور المرتبطة جبراً وخطياً بإيقاظ المجلس الوطني وتقعيده
على سكة الحضور والفعل، وأداء وظائفه بانتظام في حدود المستجدات المحيطة به على
كـل الصعد. فاللحـظة التي ستشهد تشغيل ودوران هذه المؤسسة التـشريعـية هي اللحظة
التـي يحق عندها الوثـوق في صـحوة منـظمة التـحرير عـلى رأس المـشروع الوطني
الفلسطيني.
الملاحظة الثانية، أن عملية إحياء المجلس الوطني
وتوابعها لن تكون مجرد استئناف لما انقطع قبل سنين على مستويي الشكل والمضمون،
البناء والوظيفة. وللإنصاف، فإن مختلف ألوان الطيف الأيديولوجي والفكري والسياسي
الفلسطيني على وعي بهاتين الملاحظتين، بحيث إنها تجمع من حيث المبدأ على أن قضية
تفعيل المنظمة معلقة بمصير هذا المجلس. ومن آيات هذا الوعي أن الوثائق الناتجة عن
الحوارات والتفاهمات والتوافقات الداخلية بين القوى الأكثر شعبية وقطبية في حركة
التحرر الفلسطينية، فتح وحماس بصفة استثنائية، قد اتخذت من تصديق المجلس الوطني
للمنظمة بعد إعادة تشكيله شرطاً أساسياً لمرور أية صيغة لتسوية القضية الفلسطينية
يتم التوصل إليها مع إسرائيل. ورد ذلك بصريح العبارة في الأوراق الخاصة بتشكيل
حكومة الوحدة الوطنية ومبادئها. وجاء في نص الاتفاق أيضاً أن بديل هذه المرجعية
العليا هو إجراء استفتاء شعبي على صيغة التسوية، بما يجعل للمجلس الوطني حجة
قانونية وسياسية تساوي رأي الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده... وهـذه مـكانة
رفيعـة لا تتـوافـر لأية مؤسـسة فلـســطينية أخـرى، بما في ذلك اللجنة التنفـيذية
للمنـظمة ورئاسـة السلطة الوطـنية وـحكومتها ومجلسـها التـشريـعي.
وأغلب الظن أصن هذه الحيثيات تشفع للانشغال
بأحوال المجلس الوطني من جانب الضالعين في تحديد مستقبل القضية الفلسطينية عربياً
وإقليمياً ودولياً. كيف لا وهم، شأن الفلسطينيين أنفسهم، بصدد مؤسسة بوسعها تحديد
وجهة ومصير عملية التسوية وما يتمخض عنها؟
على أن الاعتراف بالأهمية القصوى للمجلس الوطني
بالنسبة لأوضاع منظمة التحرير ولآفاق عملية التسوية الفلسطينية، لا يسهل التعاطي
مع قضية تفعيل هذه المؤسسة، وربما أضفى عليها تعقيدات ومحاذير إضافية وأثار على
ضفافها تساؤلات فارقة... أبرزها في تقديرنا هو كيف يجرى تشكيل المجلس في ثوبه
الجديد؟ سيقول البعض، إن المستجدات حول الوجود الفلسطيني داخل الأرض المحتلة
وخارجها، تسمح بإجراء الانتخابات. ذلك على اعتبار أن معظم الدول المضيفة صارت تأخذ
بهذه الآلية الديموقراطية، ولن يزعجها أن يفعل الفلسطينيون الشيء ذاته مع مؤسستهم
التشريعية. غير أن تقديراً كهذا يبقى في حيز النظرية والكلام المرسل إلى أن يتم
استطلاع رأي العواصم ذات الصلة في شكل رسمي وموثق ومعلن. وفي كل الأحوال، يصعب
الاعتقاد بأن قرار انتخاب أعضاء المجلس الوطني وما يترتب عليه هو قرار فلسطيني
بحت... إنه شأن يخص العواصم المضيفة للفلسطينيين وكذا القوى الخارجية المنغمسة في
قضيتهم الوطنية. ولا نعتقد أن هذه الأطراف ستتسامح بسهولة مع مثل هذا الشأن. إذ إن
معركة انتخابية كهذه لن تكون كسائر المعارك بل سـتتداخل على خطوطها استفهامات
كثيرة.
من ذلك مثلاً، ما الهدف من إعادة بعث منظمة
التحرير ومجلسها الوطني؟ ما مدى اتساق محصلة هذه العملية الإحيائية مع السياسة
العربية تجاه الصراع والتسوية مع إسرائيل؟ وبالنظر إلى تغلغل قوى دولية معنية بقوة
بمسيرة الصراع والتسوية العربية الإسرائيلية، فمن المحتمل بقوة أن تتساءل العواصم
العربية عن موقف هذه القوى بهذا الخصوص؟ وقبل ذلك وبعده، ما المخاوف والمحاذير
المحتملة من اشتعال المعركة الانتخابية الفلسطينية في أحشاء الدول العربية
المضيفة... ألا يجدر بهذه الدول التحسب من اندياح هذه المعركة إلى مجتمعاتها
وارتفاع منسوب التأثر بشعارات القوى الفلسطينية ومناظراتها؟ والأرجح أن الهواجس
الأمنية ستحيط بالإجابة عن هذه التساؤلات ونحوها، وذلك عطفاً على التدافع
الفلسطيني الذي بلغ كسر العظم بين فتح وحماس بخاصة غداة الانتخابات التشريعية في
الداخل الفلسطيني، وبالتداعي ستكون خطوة جبارة بحق إذا ما قررت العواصم العربية
ذات الصلة تمرير انتخابات المجلس الوطني في بلادها!
ثم إنه حتى إذا ما اتخذ مثل هذا القرار الصعب،
وتخطي المعنيون عقبة التشكيل، فستثور على الفور قضية المرجعية الدستورية الحاكمة
لوظيفة المجلس الجديد. وهنا، سيحتدم الجدل وربما التنازع حول أي الخيارات أفضل:
إعادة العمل بنصوص وإلهامات الميثاق الوطني للمنظمة الذي تعرض للهجران والتصدع
وبعض الإلغاء والتجويف، أم إجراء تعديلات محدودة أو واسعة عليه، أم إنتاج ميثاق
بديل تماماً في ضوء العوارض والمستجدات؟!
إلى هذه التساؤلات العسيرة ونحوها، قد يلحظ
البعض عن حق، أن إجراءً فلسطينياً جاداً أو حتى استهلالياً استطلاعياً لم يتخذ في
شأن تجهيز سواد الفلسطينيين، ولا سيما المنتشرين شتاتاً ولجوءاً في بلاد الله
الواسعة، لحدث انتخابات المجلس المنتظر... إن حدثاً فارقاً كهذا يحتاج مثلاً إلى
حصر لأعداد الناخبين وإدراجهم في قوائم، وهي مسألة تنطوي على تعقيدات. هذا من دون
الاستطراد إلى ضرورة تعريف الناخبين بلجانهم التصويتية، بعد تعريفهم بالمرشحين
وضمان ترتيبات اللقاء بهم، وقضايا فرعية أخرى كشروط الدعاية الانتخابية وحجم
التمويل المسموح به... صدق من قال إن الشياطين تكمن في التفصيلات.
* كاتب فلسطيني
المصدر: الحياة