الفلسطينيون في الخليج أزمة الدور وضرورات التمثيل
يوسف أبو السعود / الرياض
ثمة خطاب تتصاعد وتيرته هذه الأيام حول أولويات المشروع الوطني الفلسطيني
وأهمية مراجعة المسار النضالي. تبرز من بين هذه الأولويات أهمية الالتفات إلى تمثيل
الفلسطينيين في الخارج وتمكينهم من استعادة الدور والمشاركة في صوغ مستقبل ال عمل الوطني؛
إذ إن أكثر من عقدين من الزمان كان كفيلاً بإبعاد فلسطينيي الخارج عن قول كلمتهم وتهميشهم
فيما يجري لمشروعهم الوطني. ولعلنا هنا، إذ نتناول شريحة من هؤلاء تتزايد أعدادها يوماً
بعد يوم، في منطقة كانت على الدوام لاعباً أساسياً في ملفات القضية، ولعوا مل متعددة.
فمسيرة النضال الفلسطيني بدأت بواكير عملها في الخليج وفي أحضان الجاليات المقيمة هناك.
فكيف تقلصت أدوار فلسطينيي الخليج في التأثير في مسارات القضية؟ وما الأدوار التي تنتظرهم
في التمثيل والدعم والإسناد لمشروع التحرير القادم.
لا تتوافر إحصائيات رسمية يمكن الاستناد إليها في أعداد الفلسطينيين في
الخليج، لأسباب تتعلق بتنوع الوثائق الثبوتية التي يحملونها، وما يتبعه من تنوع علاقتهم
بممثليات الدول التي يحملون وثائق سفرها. إلا أن مصادر عديدة تقدّر العدد بما يتجاوز
مليون نسمة، يتركز معظمهم في السعودية. وهم بذ لك يشكلون التجمع الثاني للاجئين من
حيث العدد بعد لاجئي الأردن؛ إذ في السعودية وحدها يزيد عدد الفلسطينيين أو يقارب الأرقام
التي تتحدث عنها الأونروا للفلسطينيين في لبنان.
بداية التشكل
منذ النكبة، حمل بعض الفلسطينيين ــ وجُلّهم من
الساحل الفلسطيني وقطاع غزة ـ ـ همومهم ومعاناتهم حين ضاقت بهم سبل العيش تحت الحكم
المصري، وهاجروا إلى تلك الإمارات الخليجية التي كانت تشهد بداية طفرة عمرانية وتنموية.
عمل الكثير منهم في التدريس، وكانوا من أوائل الذين شاركوا مع إخوانهم المصريين في
بناء أسس النظام التعليمي والإداري في مع ظم دول الخليج. وما زال عبق ذكرياتهم يفوح
في أحاديث من عاصرهم من أبناء المجتمعات المحلية.
تحصّل عدد محدود منهم على جنسيات الدول الخليجية،
أما السواد الأعظم منهم، فلم يسعَ إليها، يقيناً وتوقاً إلى العودة المنشودة. ثم ما
لبثت موجة أخرى تهاجر إلى الخليج من أهل فلسطين، كان أكثرهم هذه المرة من الضفة الغربية
والقطاع اللذين سيطر عليهما الاحتلال عام 1967. تعلم الوافدون الجدد الدرس ممن سبقهم،
فعمل بعض منهم في التجارة والهندسة، وسطّروا قصص نجاح لشركات وأعمال يعجز المقام هنا
عن سردها.
العمل الوطني الفلسطيني في الخليج
ش كلت منطقة الخليج، والكويت على وجه الخصوص، حاضنة
قلّ نظيرها للعمل الفلسطيني خلال عقد الستينيات والسبعينيات. ولعلنا نورد هنا أن منطقة
الخليج شهدت بداية انطلاقة العمل الوطني الفلسطيني نهاية الخمسينيات من القرن الماضي
في تلك الخلية التي ضمت كلاً من ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وسليمان الحمد وغيرهم.
يضاف إلى ذلك أن جانباً من تأسيس العمل الفلسطيني بصيغته الإسلامية نشأ أيضاً في الخليج
نهاية السبعينيات، ذلك الذي أفرز انطلاقة حماس لاحقاً.
شكلت الروح الإسلامية والعروبية لشعوب الخليج وحكّامها
أثراً كبيراً في الدع م، والدعم المالي على وجه الخصوص، وبقي النشاط الفلسطيني مقتصراً
على الإمداد والإسناد لمشروع المقاومة في الداخل، دون بناء مؤسساتهم الذاتية التي تحمي
هويتهم وتنسّق وتدعم تواصلهم وتكافلهم فيما بينهم.
أدت المكاتب الشعبية لدعم القضية الفلسطينية دوراً
بارزاً وكانت ذراعاً قوية لحركة "فتح" في تثبيت وجودها بين فلسطينيي الشتات.
إلا أنّ حرب الخليج الثانية عام 1990 وموقف قيادة منظمة التحرير آنذاك ألقيا بظلالهما
في حالة من التشويش على واقع العلاقة بين الفلسطينيين والمجتمعات المحلية. نال فلسطينيو
الكويت القسط الأكبر من ت لك المعاناة. عندها، وجد الخليجيون أن طرفاً فلسطينياً صاعداً
في الداخل، يملك بعداً وروحاً إسلامية تنسجم وتتواءم مع الموروث الشعبي المحلي، فبدأت
حالة من الانفتاح البسيط والجزئي على قيادة حماس مع بقاء التمثيل الرسمي للمنظمة والهياكل
التي انبثقت منها.
لاجئون أم جاليات؟
لطالما عُدّ وجود الجاليات العربية في منطقة الخليج
وجوداً موقتاً، ينحصر المبتغى منه في العمل وزيادة الدخل، وذلك لاعتبارات الثروة التي
تتمتع بها هذه البلدان قياساً بأصقاع أخرى. شكّل الفلسطينيون في الخليج نوعاً من الاستثناء
من هذه القاعدة؛ فقد نظروا إلى هذه الدول باعتبارها بلاد لجوء بعد تشرد، ولم تنطبق
عليهم شروط اللاجئ التي تنطبق على نظرائهم في الأردن وسورية ولبنان، فغابت المؤسسات
التي تمثلهم وترعى حقوقهم كلاجئين لاعتبارات تتعلق بنظرة الدول الخليجية إليهم كجاليات
جاءت للعمل، ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها من الجاليات الأخرى. وهنا تبرز المعاناة
للأجيال المتعاقبة تلك التي تنشأ بعيدة عن وطنها، وفي منأى عن معايشة واقعه اليومي
أو دراسة تاريخ الصراع من خلال المناهج المدرسية، فتنشأ أجيال تتقاذفها أولويات الانكفاء
على الذات والهموم اليومية، أو الاندماج الكلي أو الجزئي في الثقافة المحلية للدول
المضيفة.
ترهل الهياكل وتشعُّب التمثيل
ثمة تعقيد كبير في مسألة تمثيل فلسطينيي الخليج،
شكلت السنوات والدول التي مروا بها في رحلتهم إلى محطة اللجوء هذه عاملاً مهماً في
تمييعها وإضفاء قدر منه من الضبابية عليها. وهنا يمكن الحديث عن شرائح متعددة منها:
1 - الفلسطينيون الذين هاجروا من قطاع غزة أو الساحل الفلسطيني، مروراً بمصر،
ولا يزال العديد منهم يحملون وثائق السفر المصرية، وقليل منهم حصلوا على جوازات من
السلطة الفلسطينية التي تمخضت عن اتفاق أوسلو، وتشكل القنصليات المصرية وممثل يات السلطة
مرجعاً رسمياً لهم.
2 - الفلسطينيون الذين يحملون جوازات السفر الأردنية، سواء الدائمة منها أو
الموقتة، والذين جاؤوا مروراً بالأردن، ومعظمهم يعود إليها من حين إلى آخر ويتبعون
للقنصليات الأردنية في معاملاتهم الرسمية.
3 - حملة الوثائق السورية واللبنانية، وأعداد هؤلاء قليلة جداً مقارنة بغيرهم.
4 - أما النوع الأخير، وهو في تنامٍ مطّرد، فيتمثّل بحملة الجوازات الأوروبية
والأميركية الذين حصلوا عليها، وعادوا إلى هذه المنطقة هرباً بأبنائهم إلى بيئات أكثر
محافظة.
وهنا نشير إلى أن الدول الخليجية تنظر إلى ال فلسطيني
من زاوية الوثيقة التي يحملها، ما يلقي بظلاله على أولويات الدور والتمثيل. وتشكل حالة
الترهل التي تعتري ممثليات المنظمة في الخليج من قنصليات ولجان شعبية بعداً آخر في
إحجام الفلسطينيين عن ممارسة الأدوار المطلوبة في التواصل والحفاظ على وجودهم ككتلة
متماسكة غير قابلة للذوبان في زحمة الحياة المتسارعة في الخليج. فمنذ اتفاق أوسلو تخلت
هذه المكاتب عن أدوارها المطلوبة في تجميع الجالية وتحقيق حالة التكافل والتعاضد بينها،
بل تركت مكانها لمبادرات فردية خجولة أو نشاطات تقوم بها جهات خيرية محلية. ولعل حالة
الانقسام الفصائلي ألقت بظلالها على طريقة تعامل هذه الممثليات مع أفراد الجالية، ما
أفرز حالة من التوجس والإحجام بين عموم أبناء الجالية في التعاطي معها.
الأدوار المنتظرة
ثمة كفاءات فلسطينية تنتشر في منطقة الخليج تبني
وتعمّر، دون أن تلقى من يبادر إلى تنسيق جهودها وتوجيهها في أطر ومؤسسات تدعم القضية
وتسهم في القرار. والحديث عن فلسطينيي الخليج باعتبارهم تبعاً للدول التي يحملون وثائقها
هو إفراغ للنضال والتاريخ الفلسطيني من معناه. كذلك إنّ فرضية أنّ الدول الخليجية مواطن
للرزق وجمع المال والانكفاء على الذات ولا يصلح فيها العمل الشعبي، فيها إجحاف لهذه
الأوطان التي احتضنت القضية لسنوات. ولعل جملة من الأدوار والخطوات السريعة ينبغي النظر
إليها وتفعيلها:
أولاً: أهمية إعادة الدور الريادي لممثليات المنظمة
والسلطة في البلدان الخليجية وإعادة بنائها بروح وطنية لا فصائلية، وأن تفتح أ بوابها
لنشاطات تخدم الفلسطيني- كل فلسطيني- وترعى
مصالحه وتحافظ على ممارسة هويته الفلسطينية وتدعمها، باعتبارها هوية تعتز بفضائها العربي
الإسلامي.
ثانياً: أهمية تشكيل الكتلة الصلبة من جميع مكونات
الجالية وإبراز الرموز والضغط لتمثيل هذه الجاليات في مؤسسات صناعة القرار الفلسطيني،
وفي مقدمتها المجلس الوطني. وهنا نشير إلى أن التعلل بصعوبة إجراء انتخابات للمجلس
الوطني في الخليج لاعتبارات تعود إلى رفض الدول الخليجية يجافي الحقيقة والواقع، لاعتبارين
رئيسين:
الأول، أن عدداً من الدول العربية أقامت لها انتخابات
بين ا لجاليات وليست الجالية المصرية أولها ولا آخرها.
أما الاعتبار الثاني، فهو أنّ الاستناد إلى أن الفلسطيني
هو الذي يحمل الوثيقة المصرية أو جواز السلطة، فيه إجحاف لما يقارب النصف من أبناء
الجالية الذين يحملون وثائق أخرى.
إن فتح باب التسجيل الطوعي للانتخابات لجميع من
يثبت أن جدّه الأول أو الثاني من مواليد فلسطين، فيه مخرج لهذا الالتباس وتوسيع لهذه
الشريحة ومشاركتها في اختيار من يمثلها. نفتح قوساً هنا لنضيف: (إننا لن نعدم الوسيلة
المناسبة لتسجيل فلسطينيي الشتات ومشاركتهم في المجلس الوطني، إن توافرت الإرادة الوطنية
الحقيقية لدى القيادات الفلسطينية التي تتحاور هذه الأيام لإنجاز اتفاق المصالحة).
ثالثا: اعادة احياء الروابط التراثية والمكانية
الفلسطينية والحفاظ عليها، وتنسيق الجهود لإقامة الفعاليات التي تحافظ على الهوية الفلسطينية
بين الاجيال الناشئة. وتؤطر الوجود الفلس طيني في فعاليات دورية تخدم التواصل وتعمل
للعودة والتحرير.
رابعاً: استثمار التحولات الجارية في المنطقة في
الخروج من حالة السلبية وذهنية الانتظار، والسير قدماً في تقديم القضية الفلسطينية
باعتبارها قضية عادلة تستوجب من الجميع العمل لأجلها.
إن شرطية معاناة الفلسطيني كسبيل للعودة والتمسك
بالحقوق، فيها ظلم للفلسطيني وظلم لفلسطين، ولطالما عمل الاحتلال بكل طاقته لتذويب
الوجود الفلسطيني ككتلة واحدة، بغية دمجه في المجتمعات المحلية، فتتغير قيمه وأولوياته.
وقد آن أوان إبطال هذه الشرطية بعمل دؤوب ومبادرات عملية، وفلسطينيو الخليج ليسوا استثناءً
من القاعدة، وبحبوحة العيش التي هم فيها لا بد أن تنعكس في خدمة قضيتهم الكبرى.
بقي أن نقول، إن خصوصية القضية الفلسطينية باعتبارها
قضية مركزية للعرب ولدول الخليج خاصة، تحتم على هذه الدول إعطاء هامش أكبر من الدعم
لتمكين الجاليات الفلسطينية التي تقيم على أراضيها من إبراز ممثليها ورموزها وتسهيل
حركتهم ونشاطاتهم، بما يخدم القضية ويحترم أنظمة هذه الدول المضيفة.
المصدر: مجلة العودة، العدد السادس والستون