الفلسطينيون في زمن الهجرات الجديدة
بقلم: علي بدوان
مخاطر جديدة باتت واضحة منذ فترة من الزمن مع
اتساع ظاهرة الهجرة السلبية للشباب الفلسطيني نحو أصقاع المعمورة، بينما طاولت الهجرة
عائلات فلسطينية بكاملها من اللاجئين الفلسطينيين في سورية اتجهت بمعظمها نحو ألمانيا
والدول الاسكندنافية (السويد، النروج، الدنمارك) وأستراليا.
ورب قائل إن ظاهرة الهجرة هي ظاهرة عالمية بين
الشمال والجنوب، وليست مقتصرة على الفلسطينيين من دون غيرهم، وهو أمر صحيح على كل حال،
فهناك الآلاف من أبناء المغرب العربي يركبون كل يوم أمواج المغامرة ويحاولون شق طريق
الهجرة نحو إيطاليا وفرنسا وبلجيكا على سبيل المثال، لكن الأمر في الحال الفلسطينية
يختلف عن العام الذي يسود في مناطق مختلفة من العالم وقد تحول بعض البلدان إلى مناطق
جاذبة وبعضها إلى مناطق دافعة ونافرة باتجاه الخروج منها.
فالعوامل التي قد تدفع نحو نشوء ظاهرة هجرة بعض
الفلسطينيين هي غيرها التي تدفع شباب تونس والمغرب للهجرة إلى فرنسا وإيطاليا. ففي
سورية يعيش اللاجئون الفلسطينيون ظروفاً مأسوية تحت وطأة جسامة الأحداث الجارية والأخطار
المُحيقة بحياتهم، فضلاً عن تقطّع السُبل بهم خصوصاً بعد النزوح الكثيف لفلسطينيي بعض
المخيمات والتجمعات، ومنها مخيم اليرموك، حيث غادر بعضهم نحو أصقاع المعمورة وقد ابتلعت
مياه وأسماك البحر الأبيض المتوسط أعداداً منهم.
إن فلسطينيي سورية، وفوق الرحيل القسري لأعدادٍ
منهم يعانون الأمرين. فالحرب، أي حرب، تنتج كوارث إنسانية تدفع الناس المنكوبين إلى
الهروب من الموت والرحيل إلى المجهول، وبالأمس نزح ملايين من أبناء الشعب العراقي خارج
بلادهم جراء الغزو الأميركي، وفي عام 2006 نزح مئات الآلاف من اللبنانيين جراء العدوان
الإسرائيلي، وفي كل الحروب هناك لاجئون ومهجرون وضحايا وكوارث إنسانية.. الفارق بينهم
وبين الفلسطينيين، أن الشعب الفلسطيني ُطرد من أرضه طرداً واقتلاعاً وترحيلاً قسرياً،
بينما الآخرون لم يفقدوا أوطانهم، حيث إن رحلتهم إلى التيه ستبقى قصيرة. أما رحلة التيه
الفلسطينية فمستمرة، نكبة تلو نكبة، وهنا يكمن عمق المأساة.
أما في الداخل الفلسطيني، حيث تسعى سلطات الاحتلال
في الداخل إلى تشجيع تلك الظاهرة من خلال ممارساتها المعروفة، ومنها على سبيل المثال
سحب بطاقات المقدسيين لدفعهم نحو الهجرة إلى خارج فلسطين كلياً، وهو ما حدث مع عشرات
الآلاف من الأسر الفلسطينية، وعلى الأخص منها الأسر المسيحية التي تركت المدينة المقدسة
خلال العقود الأربعة الماضية، عدا عن تعطيل عودة آلاف الشباب من أبناء الضفة الغربية
ممن كانوا خارجها بقصد العمل أو الدراسة.
فضلاً عن بقية الأسباب، ومنها المتعلقة بوجود
الاحتلال ذاته، وهو ما دفع بعض قطاعات الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة
لأن تتجه إلى اتخاذ خيارات الهجرة إلى خارج الوطن الفلسطيني مع استفحال الأزمات اليومية
خصوصاً منها الاقتصادية جراء إجراءات الاحتلال، ومعها الأزمات السياسية المتوالية في
البيت الفلسطيني الداخلي وعلى مجمل مسارات الحالة السياسية في المنطقة.
ووفق معلومات مؤكدة، تشير التقديرات إلى أن قرابة
أربعة آلاف فلسطيني يهاجرون من الضفة الغربية سنوياً في السنوات الأخيرة. وتشير المعلومات
إلى أن غالبية المهاجرين من الفلسطينيين المسيحيين، ولكنها اتسعت بعد ذلك لتشمل المسلمين
وحتى بعض الكوادر في السلطة الوطنية الفلسطينية وبعض المفكرين والتجار ورجال الأعمال،
والمثقفين وأصحاب رؤوس الأموال.
إن أسباب التحول في الهجرة الموقتة (في غالبيتها)
تتم أيضاً لاعتبارات عديدة يقع على رأسها العمل من أجل تحسين الوضع المادي وتوفير الدعم
للعائلة في فلسطين في ظل الضائقة الاقتصادية التي تتسع كل يوم، واتساع ظاهرة البطالة
والفقر، إذ تشير الأرقام عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، المستقاة من تقارير منظمات
دولية وكذلك مكتب الإحصاء الفلسطيني، أن 43% من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة يعانون
غياب الأمن الغذائي، وثلثي العائلات في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت خط الفقر. فضلاً
عن ذلك علينا ألا ننسى الحصار الإسرائيلي المتواصل وجدار الفصل وسياسات الاحتلال بشكل
عام، الأمر الذي يلقي بظلاله الصعبة على الوضع الاجتماعي والسياسي المترافق مع المظاهر
المأسوية المتوالدة نتيجة التسيب الأمني وفقدان الوحدة الوطنية والتمزق الفلسطيني الداخلي.
هذا إذا أضفنا أن مستوى المساعدات من الأمم المتحدة والمنظمات الدولية خصوصاً الأونروا
في تراجع مستمر بينما يتزايد عدد السكان في مجتمع تبلغ نسبة الخصوبة فيه 7,8 بالمئة
وهي نسبة عالية وفق معدلات التزايد السكاني في العالم، وفي ظل غياب القانون والعدالة
والمساواة.
إن قضية الهجرة السلبية، على رغم مراوحتها عند
حدود معينة هي أقل من مثيلاتها في دول مستقرة في العالم، إلا أنها تبقى قضية تستحق
منا الوقوف أمامها، والتفكير بها جيداً، وهو ما يلقي على جميع الفصائل والقوى الفلسطينية
وعلى منظمة التحرير مسؤولية الالتفات إلى تلك الظاهرة ومعالجتها، وفي الوقت نفسه تنمية
التواصل مع الجاليات الفلسطينية في دول أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، باعتبارها
رصيداً هاماً للشعب الفلسطيني في معركته مع الاحتلال.
إن هذا الخطر يتأتى الآن، على رغم أن مغادرة الوطن
الفلسطيني تحت عنوان «الهجرة» يعبر عن خيارات تكاد تكون مهينة وذات مغزى سلبي بالنسبة
الى الفلسطينيين، خيارات تُذكرهم بنكبة 1948 وآلامها، وعلى خلفية الانتقام منها ومواجهتها
طوروا منذ عام 1967 أسطورة مضادة اسمها «الصمود»، أي التشبث بالأرض الذي يلازم حلم
العودة، وهو الحلم الذي ما زال يدغدغ الوجدان الوطني الفلسطيني ويشكل القاسم المشترك
في الإجماع الوطني.
إن الهجرة الفلسطينية نحو القارة الأميركية كانت
كلاسيكية قبل النكبة وسنواتها الأولى إلا أنها أصبحت بعد ذلك ضرباً من ضروب الهروب
من الالتزام الوطني، فالفلسطينيون هاجروا إلى الدول العربية وأوروبا والأميركتين قبيل
العام 1948 وبعده بقليل، ففي الولايات المتحدة يقيم 215 ألف فلسطيني، وتعتبر شيكاغو
أكبر تجمع لهم، وفي أميركا اللاتينية يعيش 600 ألف فلسطيني، منهم 300 ألف في تشيلي
والمتبقون في السلفادور وهندوراس ... وقسم منهم وصل إلى مواقع عالية في الدول التي
حل فيها، مثلاً أنطونيو ساكا (السقا)، رئيس هندوراس من بيت لحم. وفي مقاطعة بيليز
(هندوراس البريطانية) هناك سعيد موسى الفلسطيني رئيساً للوزراء، وفي السلفادور كان
هناك رئيس من أصل فلسطيني… كما كان شفيق حنضل قائد حركة التحرر الوطني في السلفادور
(جبهة فاربندو مارتي) من أصول فلسطينية.
بعد النكبة كانت الهجرة نحو دول الخليج العربي
لكسب الرزق ورفد الأهل في فلسطين ومخيمات الشتات، فكان الفلسطينيون بين أوائل الدفعات
العربية التي وصلت وساهمت في قطاعات التربية والتعليم وهندسة البترول، فغادر عشرات
الآلاف منهم إلى دول الخليج، ونصفهم غادر من دون أبناء العائلة، فالهجرة الموقتة للعمل
كانت دوماً في صالح دعم صمود الفلسطينيين في الداخل من خلال المردود المالي الذي كان
دوماً ينصب نحو فلسطين، لكن يخشى الآن من ظاهرة الهجرة نحو كندا وأستراليا بشكل رئيسي،
حيث تلعب المشاريع الجارية دوراً هاماً في دفع فلسطينيي الداخل وفلسطينيي لبنان على
وجه التحديد للسعي باتجاه شد الرحال وتسهيل الطريق أمامهم والإقامة الدائمة في البلدين
المذكورين.
المصدر: الحياة