الفلسطينيون لا يبحثون عن وطن: فلسطين وطنهم
بقلم: د. سعيد الشهابي
هذه العبارة البسيطة في كلماتها، العميقة في مدلولاتها ليست من نسج خيال الكاتب، بل عنوان المؤتمر الذي انعقد في قاعة المؤتمرات بطهران، التي احتضنت للمرة الاولى في 1997 زعماء اكثر من خمسين دولة في القمة الاسلامية الثامنة.
وليس مستغربا ان يعتبر الكثيرون ما طرحه الحاضرون في المؤتمر، الذي تواصل يومي السبت والاحد الماضيين، سقفا شاهقا، أعلى من قمم سلسلة جبال ألبورز التي تتوجه اليها انظار الحاضرين بين الجلسة والاخرى، وكأنها تراقب ما يفعلون. ولكن يبدو ان الحاضرين، والكثير منهم بلغ الشيخوخة ويستحيل عليه التسلق الى تلك القمم، امتلكوا الشجاعة للإعلان بصوت واحد عن 'ضرورة تحرير فلسطين من البحر الى النهر'. انها عبارة تكررت على ألسنة الذين تناوبوا على منصة الخطابة في القاعة العملاقة ذات القبة الشاهقة التي تسمح بشكلها المخروطي للحاضرين برفع هاماتهم حتى تصبح افقية لكي يروا ثقبا في اعلاها ينقل ابصارهم الى آفاق السماء. بعض المتحدثين بلغ السبعين وقضى اكثر من نصف قرن مناضلا على طريق تحرير فلسطين، وودع العشرات من اقرب الناس اليه بعد ان سقطوا على طريق الشهادة الطويل الممتد 63 عاما لتحرير الارض التي احتلها الصهاينة. ربما جاء الكثير من هؤلاء يائسا من إمكان التحرير، ولكنه سيجد نفسه بعد المؤتمر مثقلا بأعباء 'اليقظة الاخيرة' التي ربما سبقتها احلام غير واقعية، ليشاطر المجتمعين، وهم من شتى بقاع الارض، طعم الأمل بإمكان تحقق ما كان يتطلع اليه منذ صغره. قلة من الحاضرين من الفلسطينيين يتذكر مرارة 'النكبة'، لكن اغلبهم تستعيد ذاكرته بوضوح حالة الانكسار التي منيت بها الامة بعد 'النكسة'. لقد انطلق أمل التحرير من مؤتمر طهران في اطاره الشامل الجامع، بعد ان سبقته حربان شرستان كسرت فيهما ارادة العدو الاسرائيلي، فكان المؤتمر خطوة متقدمة لبلورة نظرة مستقبلية تقوم على اساس حتمية التحرير. العديد من رموز المجاهدين في الحربين حضر المؤتمر متذوقا طعم النصر الذي حرم منه جيلا 'النكبة' و 'النكسة'. ولذلك لم يكن مؤتمر فلسطين في طهران تسجيلا لموقف أو تحديا للأنظمة العربية التي عجزت عن الصمود امام تحديات الاحتلال. كما لم يكن استعراضا سياسيا، بقدر ما كان 'ورشة عمل' شارك فيها الفلسطينيون مع بقية رموز العالم الاسلامي خصوصا من رواد الصحوة، ليستعيدوا جميعاً شجاعة كافية للتحدث بلغة غير مسبوقة عن حتمية 'الانتصار' على الاحتلال والهيمنة وكسر روح الهزيمة التي هيمنت على اجيال متعاقبة من العرب والمسلمين.
مؤتمر فلسطين جاء بعد مؤتمرين مهمين في طهران، يمهدان الطريق باتجاه واضح. الاول كان حول 'الصحوة الاسلامية' بحضور اكثر من 500 شخص من المهتمين بربيع الثورات، ومن بينهم ناشطون فاعلون في تلك الثورات. اما الآخر فكان حول دور الاذاعات والتلفزيونات الاسلامية في التعاطي مع عملية التغيير المتواصلة في عدد من اقطار العالم العربي. فكل شيء في طهران موجه لتلك الصحوة وخدمتها ودعمها والترويج لمشروع تحرير فلسطين، الامر الذي لا يروق لقطاع واسع من الحكومات العربية والدول الغربية التي ترى في تلك الثورات، من الناحية الاستراتيجية، امتدادا متأخرا للثورة الاسلامية في ايران تم تأجيله اكثر من ثلاثة عقود. حضر مؤتمر فلسطين عدد كبير من كافة اصقاع الارض، من اندونيسيا شرقا، مرورا ببنغلاديش والهند وباكستان وجزر القمر الى الدول العربية والافريقية وصولا الى ايطاليا وبريطانيا والى الولايات المتحدة وكولومبيا. وكان لافتا للنظر الحضور الفلسطيني المكثف، ممثلا بأغلب المنظمات الفلسطينية وفي مقدمتها حماس والجهاد الاسلامي. ايران ارادت تعميم طرح التحرير، فوسعت الدعوة الى البرلمانات الاسلامية والمنظمات السياسية. وادلى رؤساء الوفود بدلوهم في 'مشروع التحرير' المطروح، وان بلغة أكثر دبلوماسية وأقل حماسا لما يطرحه الايرانيون والفلسطينيون. وكان واضحا وجود فجوة فكرية وسياسية بين طرح المؤتمر وما يستطيع 'برلمانيو' دول الخليج مثلا طرحه. فالكويتيون والقطريون والاماراتيون والعمانيون، حضروا وتحدثوا ولكن ضمن الاطر الدبلوماسية لسياسات بلدانهم. كان مشهدا نادرا جمع تلك الفصائل في مؤتمر يخرج بخطاب واحد واتفاق ليس على تحرير فلسطين فحسب، بل على ضرورة توحيد الموقف الفلسطيني لان ذلك ضرورة ملازمة لمشروع التحرير. ويزيد من قوة الموقف حضور الرموز الفلسطينية الكبيرة بمن فيها القيادات الرئيسية في منظمة حماس، خالد مشعل وموسى ابو مرزوق ومحمود الزهار، ورئيس حركة الجهاد الاسلامي رمضان عبد الله شلح، ومسؤولو الفصائل الاخرى مثل نايف حواتمة واحمد جبريل وغيرهما، بل ان رئيس الوزراء الفلسطيني المنتخب اسماعيل هنية، تحدث للمؤتمر عبر بث تلفزيوني مباشر، بخطاب تميز بقوة الطرح والتعهد بالالتزام بمطلب التحرير وعدم الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. وما بين هذا الطرح والمشروعات التفاوضية التي استمرت قرابة العشرين عاما كان ثمة محيط من الاختلاف، امكن الآن ردم جانب كبير منه بسبب فشل تلك المفاوضات. ولكن الاعلان عن عزم الرئيس محمود عباس على اعلان الدولة الفلسطينية لم يحظ بحماس الحاضرين، مع تردد واضح حول مدى السكوت عليه او معارضته او تشجيعه. لم تكن هناك بروتوكولات معقدة، فالجميع يحضر قاعة المؤتمرات، اما متحدثا او مشاركا في منصة الرئاسة او مستمعا او مناقشا. الموضوع مركزي وجامع، ولكنه يتشعب بشكل طبيعي لقضايا اخرى اهمها الثورات في الدول العربية التي يتفق اغلب السياسيين والناشطين على انها ستكون داعمة لقضية تحرير فلسطين. ولذلك كان التفاؤل بنجاح الثورات واضحا في الخطابات وكان بندا اساسيا في البيان الختامي للمؤتمر.
واذا كانت ثمة 'خريطة طريق' للمؤتمر فإنها تمثلت بالخطاب الذي القاه قائد الثورة الاسلامية، آية الله السيد علي خامنئي في افتتاح المؤتمر. وثمة ما يشبه الاجماع على ان ذلك الخطاب كان متميزاً لأنه رفع السقف الى مستوى التحرير الكامل. انه تعبير عن المواقف الايرانية منذ انتصار الثورة الاسلامية التي اتسمت بالثبات منذ ان اعلنت ايران الثورة آنذاك استبدال سياسة الشاه الصديقة لـ'اسرائيل' بسياسة معاكسة تماما، بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني، واستبدالها بعلاقات متينة مع اهل فلسطين. نيف وثلاثون عاما مضت على ذلك التغير الاستراتيجي في السياسة الايرانية، دفعت الجمهورية الاسلامية خلالها اثمانا باهظة، وما تزال تحت الحصار الدولي بسبب موقفها الذي لا يتزحزح ازاء القضية الفلسطينية. ولذلك كان وقع كلمات مرشد الثورة على آذان الحاضرين مؤثرا لأنه كلام تصدقه الافعال والوقائع. وما تزال ايران في مرمى المدافع الغربية، بسبب التحريض الصهيوني لان خطابها الذي تأسس على عدم الاعتراف بالكيان الاسرائيلي والمطالبة بتحرير فلسطين كلها من البحر الى النهر، ودعم الحركات المقاومة للاحتلال سواء في فلسطين او لبنان، جعلها هدفا لسياسات الانتقام المتواصلة.
ركز السيد خامنئي على بضعة امور اهمها التحرير الكامل، مشيرا الى ان ايران لا تعتزم شن حرب ضد أحد ولكنها اذا تعرضت لعدوان من الخارج فـ'سوف يكون للصواريخ دور بارز في الرد'. وطرح تصوره لما يمكن تسميته 'الخيار الديمقراطي' وفق القيم الغربية، الذي يدعو لإجراء استفتاء حول فلسطين يشترك فيه كل من كان يعيش على ارضها قبل 1948 من مسلمين ومسيحيين ويهود. وكرر السياسة الايرانية الثابتة بعدم الاعتراف بالكيان، ودعم المقاومة. ومطالبة الفلسطينيين بتوحيد صفوفهم. واعتبرت الكلمة وثيقة رسمية للمؤتمر لأنها نالت اعجب الحاضرين بشكل كبير. فبالنسبة للعديد من الحاضرين، فقد بلورت الموقف الايراني ازاء قضية فلسطين الذي يتبنى خيار المقاومة، معتبرا ان فشل خيار المفاوضات يؤكد ضرورتها. واعتبرها الحاضرون منظومة فكرية متكاملة على نسق الطروحات التي قدمها الامام الخميني بعد انتصار الثورة الاسلامية. كانت الكلمة انطلاقة موفقة للمؤتمر الذي حشد المناضلين والشرفاء من ابناء الامة من شرق الارض وغربها. فجاءت الكلمات التي اعقبتها تكريسا لما جاء فيها. وادلى ممثلو الحركات الفلسطينية بدلوهم مؤكدين خيبة املهم من المفاوضات التي وصلت الى جدار مسدود، ومؤكدين ان الاتكال على الموقف لتحريك المسارات السلمية وصل الى طريق مسدود.
وماذا عن الدولة الفلسطينية التي يزمع الرئيس محمود عباس انشاءها رغم رفض الاسرائيليين والامريكيين لها؟ المؤتمرون قللوا من شأنها كثيرا واعتبروها تكريسا لواقع الاحتلال الاسرائيلي وتأجيلا لخيار المقاومة، خصوصا مع التدخلات الغربية المؤكدة لتوفير حماية سياسية واقتصادية للكيان الاسرائيلي. ممثلو حماس اعتبروا ان تحرير اي جزء من التراب الفلسطيني امر ايجابي بشرط ان لا يؤثر على خيار المقاومة او يؤدي الى الاعتراف بـ'اسرائيل'. ولا شك ان حربي 2006 و 2008 قد رجحتا ذلك الخيار. الايرانيون كانوا واضحين في طرحهم الذي لم يتغير منذ قيام الجمهورية الاسلامية، ولم يعربوا عن تململ او ضعف ازاء الضغوط الاقتصادية والسياسية والامنية التي يتعرضون لها بشكل متواصل. وجاء هذا المؤتمر استكمالا لمسلسل من المؤتمرات المخصصة لدعم شعوب المنطقة في نضالها من اجل الحرية والكرامة، من بينها مؤتمر 'الصحوة الاسلامية' ومؤتمر 'اتحاد الاذاعات والتلفزيونات الاسلامية' وجميعها يهدف لبلورة مواقف مشتركة لتوفر ذلك الدعم. ومن المرجح ان يتم النظر الى هذا الحراك السياسي والثقافي في اطار ميزان القوى في الشرق الاوسط بعد ان استيقظت الشعوب على واقعها المر، وتهيأت لخوض معركة الوجود في مواجهة الانظمة الديكتاتورية.
لقد كان المؤتمر مهرجانا ثوريا قل نظيره، خصوصا بعد ان أطل اسماعيل هنية عبر شاشة التلفزيون ليستمع برهة للمتحدثين ثم ليلقي كلمة مفعمة بالحيوية والثورية والصمود. فقد كان واضحا في افكاره وتقديره الكبير لإيران لمواقفها التي اعتبرها مبدئية، واعرب عن شكر الشعب الفلسطيني لها. وهذا ما قاله خالد مشعل في كلمته ومداخلاته المتعددة التي كان واضحا خلالها تأثره بالموقف الايراني الذي ربما فاجأ الكثيرين، ولكن البعض على الاقل لم يكن يتوقع هذا الوضوح في الرؤية والاصرار على التمسك بالقضية الفلسطينية على اساس التحرير الكامل. اسماعيل هنية تحدث بحماس في نقاط عديدة منها تقديره لما سماه 'الموقف الثابت' لايران ومركزية القضية الفلسطينية باعتبارها قضية محورية للامة، وليكرر تأكيده على خيار المقاومة، وانها اصبحت قضية انسانية تثير احرار العالم وتشجعهم للتحرك ضد الاحتلال. خطاب هنية طرح صورتين، الاولى تسترسل في عرض الجرائم الاسرائيلية، مثل تهويد القدس واعتقال الرموز المقاومة وبناء المستوطنات، مؤكدا اهمية اضراب آلاف المعتقلين لانتزاع الحرية وكرامة الاسير الفلسطيني. اما الصورة الثانية فهي صورة الصمود والثبات والتحدي، مؤكدا 'لا تنازل ولا مساومة ولا اعتراف... هذا عهدنا مع الله ومع احرار العالم'. وليس جديدا القول بان رموز التيار المقاوم الفلسطيني يتفقون على رفض الاعتراف بالكيان الاسرائيلي. هذه الكلمات انطلقت من لسان السيد هنية بتلقائية عجيبة، وفصاحة يزيد من ايقاعها صدق الخطاب ووضوح الرؤية. وتأكد الحضور الايراني في معركة تحرير فلسطين بخطاب الرئيس احمدي نجاد الذي تحدث عن التاريخ المعاصر للبلدان الاوروبية ليصل الى نتيجة تشرح ظروف فرض الكيان الاسرائيلي على الامة. وكما هي عادته، فمن المؤكد ان خطاب الرئيس الايراني سوف يثير اللغط في الاوساط الغربية التي طالما اتهمته بمعاداة السامية. كان واضحا في طرحه ومؤكدا ما سبق ان اشار اليه حول زوال 'اسرائيل' كحتمية تاريخية بفعل ذاتي ناجم عن العجرفة والاستكبار، حسب قوله. ونظرا للتاريخ النضالي العريق لأغلب الحاضرين، فقد استقبل الخطاب بحماس كبير، ساهم في اذكائه تكريم عائلات شهداء مسيرتي 'النكبة' و'النكسة' قبل بضعة شهور. فقد تعرضت تلك المسيرات من قبل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لعدوان صهيوني شرس ادى الى استشهاد عدد من المتظاهرين السلميين. كان مشهد تلك العائلات مثيرا للعطف والفخر في الوقت نفسه.
ماذا تريد ايران من هذه المؤتمرات، خصوصا الاخير منها حول فلسطين. انه تساؤل مشروع تثيره على وجه الخصوص الجهات التي تدرك ان التوازن السياسي في الشرق الاوسط يميل نحو ترجيح كفة المقاومة وضد اساليب التلاعب السياسي. الحاضرون خصوصا المتحدثين منهم يتناغمون مع الموقف الايراني الى حد كبير، فهي الدولة الاسلامية الكبرى التي تبنت قضايا فلسطين واهلها من المواطنين العاديين ومن قبل القادة وعلى رأسهم مرشد الثورة. هذا المهرجان الاعلامي الكبير سوف يثير حفيظة الساسة الاسرائيليين والغربيين على حد السواء، لأنه يوجه الامور بعكس ما يريدونه. ولا شك ان ايران ادركت هشاشة الاوضاع الغربية، خصوصا في ابعادها الاقتصادية والسياسية والامنية، والوضع الاسرائيلي الذي اصيب بانتكاسة نفسية بعد فشل الحربين اللتين شنتهما قوات الاحتلال ضد حزب الله اللبناني، وضد غزة وما تمثله من خيار مخالف تماما لما يريده الكيان الاسرائيلي وحلفاؤه. ومن المرجح بعد هذا المؤتمر ان تواجه ايران المزيد من العقوبات الغربية بذريعة مشروعها النووي الذي بدأ الشهر الماضي عمله لتوليد الطاقة. ومن المرجح ايضا ان يتخذ التحالف الغربي، عبر ما سمي محور الاعتدال العربي، مبادرات مضادة لمنع تبلور موقف التحرير الشامل للأراضي الفلسطينية الذي تتصدره إيران وتتبناه اغلب الفصائل الفلسطينية. وفي اجواء ربيع الثورات العربية، تقدم الجمهورية الاسلامية امتحانا صعبا لقوى التغيير، بإعادة قضية فلسطين الى بؤرة الاهتمام بكافة الوسائل السياسية والاعلامية والفكرية المتاحة، على اساس خيارات المقاومة والتحرير الكامل ورفض انصاف الحلول، وتوحيد الصف الفلسطيني. انه امتداد للصراع بين ثقافة التطبيع وطرح التحرير، وسوف تكشف الفترة المقبلة عمق السباق بينهما، ومدى قدرة الربيع العربي على فرز واقع جديد يتناغم مع قيم التحرر والتحرير، فان حدث ذلك فلن يبقى للتطبيع نصيب من النجاح، وهذا بالتأكيد ما تأمله طهران.
المصدر: صحيفة القدس العربي