الفلسطينيون والقرود وموزة النأي بالنفس
بقلم: يسار سليم
تظهر الأنباء الواردة من سورية في الأيام الأخيرة أن اللاجئين الفلسطينيين لم يعودوا في مأمن من أخطار العنف الدائر في البلاد، ولا سيما أن الدمار والقتل وصلا إلى أكبر تجمعين للفلسطينيين في سورية وهما مخيما اليرموك وفلسطين. وعلى الرغم من سياسة النأي بالنفس التي حاول الفلسطينيون إتباعها بين الطرفين المتحاربين في بلاد لجوئهم إلا أن ذلك لم يمنع من انتقال النيران إلى بيوتهم. وقد حدث هذا في وقت مبكر من قيام الأزمة السورية في مخيم الرمل في مدينة اللاذقية الساحلية، ثم تبعه مخيم العائدين في حمص، ومخيم اللاجئين في درعا الذي تعرض لدمار هائل، ولمقتل العديد من سكانه وتشريد الباقين.. وتكرر الأمر ذاته في مخيمي حندرات والنيرب في مدينة حلب الملتهبة منذ شهرين.
فواتير دم وعذاب وتشريد
ولحكاية النأي بالنفس التي يفضلها الفلسطينيون في سورية خيوط طويلة تقود إلى أحداث سابقة شهدتها المنطقة العربية ودفعوا ثمن مواقفهم من تلك الأحداث فاتورة طويلة من العذابات والدم والتشريد. ولا تزال الأجيال الفلسطينية تذكر أحداث أيلول الأسود الأردنية في العام 1970، والتي كلفتهم أكثر من خمسة وعشرين ألف قتيل وسنوات كثيرة من القطيعة الرسمية الفلسطينية – الأردنية، وانقطاع صلة العائلات الفلسطينية ببعضها البعض رغم وجود أكثر من مليوني فلسطيني يقيمون في الأردن.
وغير بعيد عما حدث في الأردن فقد دفع الفلسطينيون جراء اقحامهم في الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1991) ثمناً باهظاً، من مجزرة مخيم تل الزعتر التي محي فيها المخيم ومعظم سكانه عن الوجود، ومروراً بمجزرة صبرا وشاتيلا التي لاتزال صور ضحاياها شاهدة على مدى الوحشية التي قد يصل إليها البشر في نزاعاتهم المسلحة والدموية، وليس انتهاء بمأساة مخيم نهر البارد الذي صار أثراً بعد عين في الشمال اللبناني. وجراء تدخلهم في الأزمة اللبنانية خسر الفلسطينيون عشرات الألوف من خيرة شبابهم، ناهيك عن عشرات الألوف من اللاجئين في لبنان ممن تشردوا في بلدان العالم في ظل غياب الأمان.
مأساة فلسطينيي الكويت والعراق
وغداة احتلال العراق للكويت العام 1990 دفع الفلسطينيون ثمناً كبيراً بسبب معارضتهم لضرب العراق. وأجبر أكثر من مليون فلسطيني على ترك الكويت التي كانوا يقيمون فيها منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تاركين خلفهم جنى عمرهم، ومعهم حكايات من الخيال عن صنوف العذاب التي واجهوها في رحلة هروبهم من الكويت.
الأمر ذاته تكرر بعد سقوط بغداد العام 2003، حيث عاش اللاجئون الفلسطينيون في العراق (لا يزيد عددهم عن 40 ألفاً) فصولاً من الحقد الأعمى بعد ان اتهموا بمناصرة نظام صدام حسين، وجرى ذبح العشرات منهم بطريقة لا إنسانية، وجرى اعتقال المئات، أما الباقون فقد اضطروا للجوء إلى مخيمات على الحدود الأردنية والسورية في ظروف مناخية وإنسانية صعبة. ورغم عودة الاستقرار إلى العراق إلا أن قلة منهم استطاعوا العودة إلى البلاد التي أقاموا فيها لأكثر من ستين عاماً، أي منذ نكبتهم العام 1948.. واليوم أجبر معظمهم إلى الخروج إلى بلاد لجوء بديلة ككندا وتشيلي والبيرو والبرازيل، وهي الدول التي قبلت استضافتهم من أجل تخليصهم من معاناتهم في مخيمات اللجوء على الحدود العربية.
شعارات لا ترحب بهم في منفاهم
هذه الحوادث كلها زرعت في وعي اللاجئ الفلسطيني ضرورة نأيه بنفسه عما يجري في سورية من قتال عنيف لم يوفر أماكن لجوئهم. وفي بدء الأزمة السورية لم يتقبل كثير من السوريين هذه السياسة الفلسطينية، فرفعت في مظاهرات المعارضة في درعا ودمشق شعارات تصل إلى حد العنصرية ومنها (بدنا نحكي عالمكشوف فلسطيني ما بدنا نشوف)، بل وصل الأمر بواحد من قيادات المعارضة السورية في الخارج إلى ضرورة طرد كل الموظفين الفلسطينيين من وظائفهم، أسوة بما يجري لهم في لبنان حيث يمنعون من مزاولة 99 مهنة، ويمنعون أيضاً من حرية التنقل إلا بموافقات مسبقة.
وفي المقابل أطلقت السلطات بعض التصريحات التي تلمح إلى ضرورة التزام الفلسطينيين "أصول الضيافة" وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وأهمهما ما ورد دون تحديد واضح على الناطق باسم وزارة الخارجية السورية جهاد مقدسي، وأثارت حينها كثيرا من الجدل حول الوجود الفلسطيني في سورية، كما لم تميز في كثير من الحالات بين السوريين المعارضين ومن يساندهم الرأي أو الفعل كما هو حال المفكر سلامة كيلة، ومئات المعتقلين منذ بداية الأزمة.
وشهدت المواقف انعطافا واضحا عندما وجد كثير من السوريين أن الفلسطينيين بسياسة النأي بالنفس ضمنوا وجود مناطق غير ساخنة قدمت خدمات كبرى لجرحى الثورة السورية، ولأولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة في ضيافة لاجئين فلسطينيين في بلادهم. وصولاً إلى مرحلة صار نصيب الفلسطينيين فيها من القتل والقصف مساوياً لمضيفيهم السوريين.
ويرى المراقبون أن خروج حركة حماس في وقت مبكر من سورية، وموقفها الذي لم يعجب القيادة السورية أدى إلى تفرد الجبهة الشعبية – القيادة العامة بمرجعية تمثيل اللاجئين عند القيادة السورية. حيث عمل زعيمها أحمد جبريل على التعهد بإبقاء المخيمات بعيدة عن الانخراط في الحراك السوري بأي شكل من الأشكال. ورغم عدم شعبيته في المخيمات الفلسطينية فقد استطاع تشكيل ما يسمى باللجان الشعبية ووزع في مخيم اليرموك بدمشق وحده أكثر من 5000 بندقية آلية وبطريقة عشوائية. وبسبب قرب اليرموك من مناطق دمشق المشتعلة: التضامن، الحجر الأسود، يلدا والميدان فقد أثارت غابة البنادق هذه حفيظة مسلحي الجيش الحر الذين أرادوا جعل المخيم بعيداً عن مرمى النيران، ففي المخيم مئات آلاف اللاجئين السوريين من حمص ودير الزور وأحياء دمشق ومن الصعب الشروع في معارك في رقعة جغرافية صغيرة تضم هذا العدد الكبير من المدنيين العزل.
التهويل الإعلامي أضر بالفلسطينيين
ومع ازدياد أعداد القتلى والجرحى في مخيم اليرموك ومحيطه تزداد خشية الفلسطينيين من المخاطر التي يتعرضون لها في حرب ليسوا طرفاً فيها. وتبدو خشيتهم مبررة في ظل العسكرة الرهيبة التي آل إليها الحراك السلمي في سورية، وفي ظل التهويل الإعلامي الكبير لحمل كتائب فلسطينية السلاح وانخراطهم في محاربة الجيش النظامي السوري، أو وقوفهم مع طرف على حساب الآخر.
النأي بالنفس على طريقة القرود ...
وبعد وضوح الصورة بعدم وجود دور للفلسطينيين في إشعال فتيل الأزمة السورية، كما حاولت بعض الأطراف الترويج له في الأيام الأولى، من المستغرب بدء حملة جديدة على الفلسطينيين من قبل بعض "الكتاب" ممن لا نستطيع تحديد هويته الفكرية بوضوح رغم ادعائه الماركسية تارة، والقومية تارة أخرى. ولا بد من التوقف عند مقالة تم تداولها في الأيام الأخير للمفكر الدكتور نبيل فياض وذهب فيها إلى دعوة الفلسطينيين إلى التعلم من القرود في مقالة عنوانها "الفلسطينيون... والقرود"، سقط فيها المفكر المختص في الأديان إلى أدنى من مستوى فتاوى حاخامات اليهود المتطرفين، رغم تأكيده في بداية المقالة على أن فلسطين تظل "في عرفنا(الكاتب ومن يمثلهم) الجزء الجنوبي المحتل من سورية... رغم كل شيء، يظل الفلسطينيون شعباً سوريّاً بامتياز، أسقط عنه هويته السورية اتفاق دول عظمى على تقسيم وطن إلى أوطان، دولة إلى دول، وأمة إلى أمم!!. ودون الدخول في تفاصيل المقالة التي تتناقض مقدمتها مع خاتمتها، فإن الكاتب يتهم الفلسطينيين (السوريين بقناعته) بأنهم يتدخلون بالأزمة السورية، ويتبرع في أن يقدم "موزة الحل" ليتجاوز دور "القرد المعلم" ويعلمهم كي يتجاوزوا ما أصابهم من خيبات امتدت من الأردن إلى لبنان فالكويت والعراق. ولعل الأهم أنه يضعهم عبر السرد الطويل بمعاداة جميع المركبات الدينية والاجتماعية في المنطقة لتركيزه على كرههم للعشائر والعلويين والسنة والدروز والشيعة وحتى يصل به الأمر إلى أنهم يكرهون أنفسهم، وكأنه يزج بهم بغير "نبل" إلى معركة التقسيم الطائفي والمذهبي وهو ما يشهد التاريخ الفلسطيني على أنه غير موجود في قاموس فلسطين منذ زمن، لكن آراء المتطرفين والجاهلين تثبته في سورية الأم.
ولا يحتاج القارئ المحايد لأحداث التاريخ القريب شهادات في الفلسفة والتاريخ ومقارنة الأديان وغيرها حتى يتأكد بما لا يدعو مجالا للشك بأن الفلسطينيين كانوا ضحية النظام العربي، بما فيه منظمة التحرير والقوى الفلسطينية الحالية التي بنيت على أساس التوازنات بين الأنظمة، وأن فلسطين كانت وستبقى الجزء الجنوبي من سورية الطبيعية، وسيوصف أهلها كما السوريين بـ"الشوام". وأن شرعية إسرائيل كدولة يهودية تتثبت في حال نجاحها بتقسيم المنطقة على أساس طائفي وإثني، ولهذا فالفلسطينيون أشد الشعوب رغبة في المحافظة على وحدة سورية وابتعادها عن الطائفية.
ومع رغبة الفلسطينيين في خروج سورية بأقل الخسائر من الأزمة الحالية نظرا لدورها في دعمهم سابقا، والثقة بأن فلسطين ستبقى جرح كل سوري حتى تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي فإن فلسطيني سورية يأملون في ألا تضطرهم الأزمة السورية إلى هجرة جديدة ومنافٍ جديدة. ويتمنون عودة الاستقرار إلى البلد الذي أعطاهم الكثير وعاشوا فيه دون أي تميز.
المصدر: روسيا اليوم