الفلسطينيون
وفكرة المفاوضة...
ماجد
كيالي
سمعنا،
في الأيام الماضية، اعترافاً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس مفاده أن «المفاوضات
فشلت»، وقوله: «21 سنه نفاوض على حدود 67 ولم نتقدم خطوة واحدة»، وأن القيادي
البارز في «حماس» موسى أبو مرزوق بات يرى أن حركته قد تكون مضطرة في وقت ما للسير
في خيار المفاوضة، باعتبار أنه «من الناحية الشرعية لا غبار على مفاوضة الاحتلال».
على هذا
المنوال يواصل الفلسطينيون جدالاتهم المعهودة، في شأن المقاومة والمفاوضة، أو في
شأن التسوية واستمرار الصراع، بيد أن مشكلتهم في هذا النقاش أنه ينبني على رؤية
ذاتية تعتقد أن العالم، وبالأخص العالم العربي، يتمحور حولهم، وأن التقرير في هذا
الخيار أو ذاك يخصهم وحدهم، كأنهم يعيشون في جزيرة، أو كأنهم مكتفون بذاتهم، أو
متخففون من الاعتمادية على غيرهم. فوق ذلك ثمة الوهم الساكن فيهم، والمتعلق بأن
انتهاجهم لخيار بعينه سيجلب الخلاص لهم، سواء كان المفاوضة أو الانتفاضة، التسوية
أو المقاومة المسلحة، دولة فلسطينية أو تحرير فلسطين.
المشكلة،
أيضاً، أن التمحور والتصارع في شأن كل خيار، أو في شأن الأوهام التي انبنت عليه،
أعاق قابليتهم لإدراك حقيقة مفادها أن موازين القوى، ومعطيات العالم من حولهم،
وأوضاعهم، وشكل إدارتهم لأحوالهم، لا تمكنهم من ما يريدون، لا بالمفاوضة ولا
بالمقاومة، وأن إسرائيل في الغضون تواصل طريقها لا تلوي على شيء، أي أنها تبني في
أوضاعها في حين تستنزف طاقتهم، سواء داخل الأرض المحتلة أو خارجها.
لنلاحظ
أن إسرائيل لم تقدم شيئاً للرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي بات على رأس القيادة
الفلسطينية، كرئيس للمنظمة والسلطة وفتح، منذ قرابة عشرة أعوام، تعد من أهدأ
الفترات التي عرفتها هذه الدولة، في تاريخ صراعها مع الفلسطينيين، لاسيما أنه في
عهده تمسك بمبدأ أن لا خيار سوى المفاوضات، وأن العمل المسلح لا يؤدي إلى نتيجة،
وقد ترجم ذلك بحرصه على تطمين إسرائيل، بما في ذلك السير في علاقات التنسيق الأمني
معها. وهي تجربة تثبت أن إسرائيل هي سبب تعثر عمليتي المفاوضة والتسوية، وأنها ترى
في السلطة الفلسطينية مجرد غطاء لاستمرار احتلالها، وأن وجود شخصية إشكالية مثل
ياسر عرفات، أو وجود حركة مقاومة مثل «حماس»، لا يشكل بالنسبة لها سوى ذريعة
لتبرير تملصها من استحقاقات عملية التسوية.
وفي
الواقع فإن المفاوضات الجادة كي تحصل حقاً، ولا سيما كي تنجح، بحاجة إلى توافر
عوامل معينة، أهمها، اقتناع الطرف القوي بلا جدوى استمرار الصراع، أو بكلفته
العالية، أو بسبب تخوفه من حدوث تصدعات في مجتمعه، تضغط عليه، أو بدفع من تغير
موازين القوى العسكرية، ولو بشكل نسبي، لغير مصلحته. وأخيراً، فهي في حالة إسرائيل
تحتاج أيضاً إلى حصول تغير في البيئة المحيطة، الدولية والعربية، لمصلحة
الفلسطينيين. وعليه، فليس من المعقول تصور أن تتنازل إسرائيل على طاولة المفاوضات
وهي أقوى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، والظروف العربية والدولية لمصلحتها.
ولعل هذا
ما كشفته «مفاوضات القاهرة» مؤخراً، والتي جاءت مخيبة للآمال بالنظر للتوقعات التي
روجت في شأنها، لاسيما بما يتعلق برفع الحصار عن غزة وبناء ميناء فيها، إذ كان من
السذاجة توقع أن المقاومة ستنتزع من إسرائيل على طاولة المفاوضات ما لم تستطع
انتزاعه بواسطة الصراع المسلح.
هذا
يفيد، أولاً، في التوقف عن إحالة المسؤولية عن إخفاق عملية التسوية لهذا الطرف
الفلسطيني أو ذاك. وثانياً، إن القصة مع إسرائيل لا تتوقف على الخيار الذي يتخذه
الفلسطينيون، بقدر ما يتوقف على خياراتها، ورؤيتها لذاتها. وثالثاً، أن
الفلسطينيين، سواء في المفاوضة أو في المقاومة، ومهما كانت قدراتهم، وأداؤهم،
فإنهم من دون تغير في طبيعة موازين القوى، والمعطيات العربية والدولية، لمصلحتم،
سيبقون غير قادرين على تثمير تضحياتهم ونضالاتهم مهما كان قدرها.
في
المحصلة يتبين أن المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية تفتقد لكل الشروط والمعايير
المناسبة، ما يفيد بعدم جدوى هذه العملية، التي باتت بمثابة تغطية على إسرائيل
وعلى حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية، ناهيك عن إضرارها بالفلسطينيين وبإدراكاتهم
لذاتهم، ولحقوقهم.
لكن ما
ينبغي الانتباه إليه أن القول بإخفاق المفاوضات لا يعني أن الخيار الآخر، أي
المقاومة المسلحة، أصابه النجاح، حتى بالمعنى النسبي. والقصد أنه لا وجود لشيء
اسمه لا للمفاوضات أو لا للمقاومة، ولا لشيء اسمه لا خيار إلا المفاوضات أو لا
خيار إلا المقاومة المسلحة، فهذه كلها من أشكال العمل والصراعات السياسية. وربما
أن هذا يفسر، نوعاً ما، المأزق الذي وقع فيه أبو مرزوق في تصريحه المذكور، حتى بين
قواعد «حماس»، لأن هذه الحركة دأبت على التشهير والتشكيك بالعملية التفاوضية جملة
وتفصيلاً، وتخوين القائمين بها، في غمرة صراعها مع «فتح»، تماماً مثلما أن هذه
ناصبت خيارات «حماس» العداء على طول الخط.
نعم،
وكما قال أبو مرزوق، قد تضطر حركة تحرر، تحت ضغط الواقع، أو بسبب ضغوط دولية
وعربية، للمشاركة في عملية مفاوضات، حتى لو كانت غير مجدية، لكن ذلك يفترض منها
مصارحة شعبها بالأمر، وان لا تبني، أو تروج، توهمات على عملية المفاوضة، وأن لا
يكون ذلك خيارها الوحيد والحصري، ناهيك عن اعتباره ذلك ضمن استراتيجية تتأسس على
بناء مجتمعها وتطوير مؤسساته.
والحال
فإن خياري المقاومة المسلحة والمفاوضة استهلكا طاقة الفلسطينيين، وأعمارهم،
وتبيّنا عن خيارين غير واقعيين. في الغضون ثمة مروحة واسعة من الخيارات الكفاحية،
ضمنها خيار الانتفاضة الشعبية (على نمط الانتفاضة الأولى)، كما ثمة خيارات سياسية
عدة ضمنها خيار الدولة الديموقراطية الواحدة، الذي يقوض فكرة الدولة اليهودية
الاستعمارية والعنصرية، ويعيد الاعتبار للتطابق بين الحقيقة والعدالة، وبين شعب
فلسطين وأرض فلسطين. أيضاً، ربما وبدل المفاوضة مع قادة إسرائيل وحكومتها الأجدى
العمل على المجتمع الإسرائيلي للتأثير فيه، بكل الوسائل، وضمنها وسائل الحوار،
فكيف وثمة حوالي مليوني فلسطيني يعيشون بين ظهراني هذا المجتمع.
الحياة،
لندن