القضيّة الفلسطينيّة
والربيع العربي
بقلم: مصطفى الفقي
*
لم تتأثر قضية
في التاريخ المعاصر بالمتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية مثلما جرى للقضية الفلسطينية،
التي خضعت دائماً لضغوط دولية وعربية دعمت الكفاح الفلسطيني أحياناً وعطّلت مسيرته
أحياناً أخرى، وقد أصدرتُ كتاباً منذ أسابيع قليلة تحت عنوان «فلسطين من التأييد السياسي
إلى التعاطف الإنساني»، لأنني أردتُ البحث في العوامل التي أثّرت، في العقود الأخيرة
سلباً وإيجاباً، في طريق النضال الفلسطيني المتّصل، والذي دفع فيه الفلسطينيون واحدة
من أغلى «فواتير الدم» في التاريخ الحديث. وقد عنيت بصفة خاصة بدراسة تأثير أحداث
«الربيع العربي» في «القضية الفلسطينية»، ويهمّني هنا أن أتعرّض للنقاط الآتية:
أولاً: لقد قاوم
الفلسطينيون الوجود الصهيوني على أرضهم، واندلعت ثورتهم في ثلاثينات القرن الماضي،
إلى أن أعلن بن غوريون ورفاقه قيام دولة إسرائيل وفقاً لقرار التقسيم الذي صدر عن الأمم
المتحدة، ما أدى إلى دخول الجيوش العربية الأرض الفلسطينية إلى أن حدث ما نسميه نكبة
1948. ثم قامت الثورة المصرية في تموز (يوليو) 1952، وبدأت عملية شحن سياسي عالية الصوت
ضد الدولة العبرية، واحتشد العرب وراء عبدالناصر الذي تعرّض للعدوان الثلاثي عام
1956، ثم تلقى ضربة عنيفة بهزيمة عسكرية في ما أطلقنا عليه نكسة 1967. وهكذا، ينعكس
المشهد العربي العام على القضية الفلسطينية منذ بدايتها حتى أصبحت قضية العرب الأولى،
على رغم استمرار الأزمات والنزاعات والصراعات في المنطقة.
ثانياً: شهدت الثورة
الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني والوجود الإسرائيلي زعامات متعددة، وعرفت أسماء قيادية
كبيرة من أمثال المفتي أمين الحسيني وأحمد الشقيري، وصولاً إلى الزعامة التاريخية الأكثر
تأثيراً في تاريخ القضية الفلسطينية وأعني بها ياسر عرفات (أبوعمار)، الذي تمتع بكاريزما
عربية ودولية ارتبطت تاريخياً بأكبر زعامة فلسطينية في العصر الحديث. فقد كان الرجل
- على رغم ما له وما عليه - قادراً على تحريك الجماهير الفلسطينية والتأثير في الشارع
العربي في شكل غير مسبوق، وكان هو الزعيم الفلسطيني الذي خاطب العالم من فوق منبر الجمعية
العامة للأمم المتحدة، وترك بصمة كبيرة في تاريخ المنطقة، إلى أن رحل رحيلاً غامضاً
تشير الدلائل كافة إلى أن إسرائيل كانت وراء اغتياله مسموماً، للتخلّص من مواقفه المتشددة
وزعامته المؤثرة على المستويين العربي والفلسطيني. ثالثاً: يرى كثر من المحللين السياسيين
وخبراء العلاقات الدولية، أن كامب ديفيد كانت منعطفاً خطيراً في تاريخ القضية الفلسطينية،
لأنها أنهت حالة الحرب بين أكبر دولة عربية وإسرائيل، بما يعني أن قدرة مصر على الدعم
العسكري للفلسطينيين معدومة، كما أن يدها سياسياً تعتبر مغلولة. وعلى رغم أن مصر حافظت
على ثوابت القضية في المحافل الدولية والعلاقات الثنائية، إلا أن القضية الفلسطينية
تأثرت بما جرى حتى قاطعت الدول العربية مصر ديبلوماسياً لعِقد كامل من الزمان. كما
انتقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وظهرت بوادر التصدّع في العلاقات
العربية - العربية. بينما يرى كثر من المحلّلين المصريين، أنه لم يكن هناك مفر من الذهاب
إلى كامب ديفيد، فقد كانت الأوضاع الاقتصادية في مصر متدنّية للغاية، فضلاً عن تدهور
الخدمات وتراجع الصحة والتعليم. كذلك، فإن المماطلة العربية في بعض الأحيان، بل والمتاجرة
بأخطر قضية في تاريخ المنطقة، دفعت السادات نحو القيام بمغامرته وهو يظن أن ما يفعله
هو خدمة قومية وخطوة على طريق قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
رابعاً: ما زلنا
نتذكر ذلك الوجه الكريه للرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون، الذي كان يداعب كلبه
ويحدّثه بينما هو محاط بوزراء خارجية أربع دول عربية، ويتندر مع الكلب في حديث ساخر
لا يخلو من الرمزية الوقحة وهو يهزأ بالعرب بعد هزيمة 1967، ويتناولهم بما لا يليق
بهم في حضورهم. لقد كانت مثل هذه التصرفات هي قمة الاستخفاف الأميركي بالعرب وقضيتهم
الأولى. ولعلنا نتأكد هنا، أن القضية الفلسطينية لم تكن دائماً محل رعاية من القوى
المختلفة في عالمنا المعاصر، بل إننا نتذكر بكل أسف أن الاعتراف بدولة إسرائيل عند
قيامها قد تم بعد دقائق من إعلانه، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي السابق الذي أصبح
نصيراً للعرب في مراحل تالية. فالقضية الفلسطينية لم تنجح في أن تكون ورقة صامدة في
إطار الصراعات الدولية المعاصرة.
خامساً: نأتي الآن
في هذه النقطة إلى ما نسميه بالعامية المصرية «مربط الفرس»، حيث إنني أظن صادقاً أن
القضية الفلسطينية قد دفعت مرة أخرى فاتورة عالية لأحداث «الربيع العربي»، وإن كان
ذلك لا يقلل من أهمية تلك الأحداث وقيمتها التاريخية ودورها في تغيير الأوضاع المترهلة
أو الفاسدة أو المستبدة في بعض الأقطار التي قامت فيها، لكن الصخب الذي اقترن بها والضجيج
الذي نجم عنها شكَّلا حاجزاً قوياً بين القضية الفلسطينية وبين مكانتها العالمية المعتادة.
فقد توارت أخبار القضية وأولوية أحداثها أمام الزخم المتدفّق من أصداء ثورات «الربيع
العربي»، التي بدأت تحتل الصفحات الأولى في الصحف وتتصدر نشرات الأخبار لأنها ملأت
الدنيا وشغلت الناس. إنني لا أجازف حين أقول إن تلك الثورات مسؤولة جزئياً عن بعض الجمود
الذي أصاب القضية الفلسطينية ووصل بها إلى ما آلت إليه. بل إنني أزعم أيضاً، أن قضية
العرب الأولى تراجعت على أجندة دول الثورات العربية ذاتها، فقد احتلت الهموم الداخلية
موقع الأولويات الجديدة لكثير من الدول العربية، وفي مقدمها دول «الربيع العربي» التي
لا تزال تتحدث ولو نظرياً عن القضية الفلسطينية وشرعية الحقوق ومشروعية الكفاح المسلّح.
سادساً: لقد تدهورت
الأوضاع في الدول العربية في شكل ملحوظ في السنوات الأولى بعد ثورات «الربيع العربي»،
ولم تعد الحكومات ولا حتى الشعوب مهيأة للمضي بالاهتمامات القديمة والثابتة نفسها لقضية
العرب الأولى. ويكفي أن نتذكر هنا، أن شعارات ثورات «الربيع العربي» كانت كلها ذات
طابع داخلي تدور حول الفساد والاستبداد والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية وسحق الفقراء،
لمصلحة طبقات جديدة بدأت تطفو على السطح من دون مبرر. لقد كان مدهشاً بل ومؤلماً، أن
نكتشف خلو شعارات «ثورات الربيع العربي» من الشأن الخارجي والدور القومي، خصوصاً في
ما يتّصل بالقضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى، على امتداد ثلاثة أرباع قرن من الزمان
على الأقل.
سابعاً: إن ما
أصاب المشرق العربي جعل القضية في موقف أضعف، فالعراق خرج من الساحة مبكراً بفعل أحداثه
قبل الغزو الأميركي وبعده، وسورية دخلت في نفق مظلم يضيف إلى اللاجئين الفلسطينيين
الملايين من اللاجئين السوريين. فالدولة السورية التي كان يمكن أن تأوي اللاجئين، أصبحت
تبحث عن المأوى. فضلاً عن غياب الاستقرار في لبنان والأردن، ومشكلات الخليج الناجم
بعضها عن التدخل الإيراني الرافض للنظم العربية والمتربص ببعضها. وينسحب الأمر أيضاً،
على مصر التي لم تصل إلى نقطة الاستقرار منذ اندلاع الثورة فيها مع مطلع عام 2011.
أما ليبيا، فهي مستودع سلاح وذخيرة قابل للانفجار في أية لحظة. ولا ننسى أخيراً، أن
اليمن تحوّل إلى مسرح قتال بين العرب والفرس تحت رايات مضلّلة تتحدث عن الخلافات المذهبية
والصراعات الطائفية.
تجسّد النقاط السابقة
ملاحظات عامة عن الوضع الحالي للقضية الفلسطينية، التي نرى أنها - على رغم بعض المؤشرات
الإيجابية للاعتراف بها على المستوى الدولي - تراجعت في الواقع كثيراً، خصوصاً في غمار
أحداث «الربيع العربي» وما جاءت به وما وصلت إليه. إننا أمام أحداث سريعة تحمل كل احتمالات
التقسيم للمنطقة مع تدخلات دولية وإقليمية وصلت إلى مستوى الوجود العسكري العلني، وهو
ما يزيد الأمر تعقيداً ويجعلنا نقول إن بعض أحداث «الربيع العربي» كان جناية على القضية
القومية الأولى، وسحب كثيراً من الاهتمام بها لتتصدّر قائمة الأولويات في السياسات
العربية القائمة كما كانت دائماً منذ عقود عدة.
* كاتب مصري
المصدر: الحياة