الكاتبة: ميرا صيداوي - مؤسسة الدراسات الفلسطينية| الخميس 26 آذار 2020
تتحرك عمتي ببطء تردد آيات من القرآن الكريم علّها
ترد الكورونا عنا. المخيم عن غير عادة أصابه صمت لم يصبه في زمن الحصار والحروب.
"وكأن عين أصابت الدنيا" تقول عمتي.
الأطفال يصرخون من بيوتهم الضيقة يستنجدون بمعجزة
ما تخرجهم من هذا الأسر؛ الكبار بخطواتهم الصغيرة يقرأون القرآن ويشعرون بالتعب كلما
مرّ يوم آخر. وكأن العمر جلس على ظهورهم فحملوه بصمت ورضى.
الدكاكين وحدها مفتوحة وجار يخبر الآخر عن بعد بضرورة
البقاء في المنزل والانتباه من العدو الذي لا يفرق بين صغير وكبير. ونسوة تبخر منازلها
وتقول من النوافذ "دعاء كورونا" بصوت عال: "يا رب نجنا من كل كرب ومرض،
اللهم إننا نستودعك أنفسنا وأرواحنا وأجسادنا فخذ بيدنا يا عالم الغيب وارحم مخيمنا."
كل شيء يتحرك ببطء كحركة عمتي: الصور على الجدران،
والسياسة، وصفقة القرن، وفلسطين، والمقاومون القدامى، وحكايات النبوءة بتحرير الأرض،
والذاكرة ... وكأن المخيم كله يقف على خيط البهلوان الرفيع؛ يقع أرضاً إن دخلت إصابة
واحدة إلى زواريبه، فتسقط كل المقولات أمام مقاومته، لأن البيوت الضيقة والقريبة من
بعضها البعض والزواريب التي تتداخل كدهاليز بيوت النمل، كلها تعرض حياة الجميع للخطر.
"لا بد أنها مؤامرة أميركية لضرب الصين والمخيمات
أيضاً... لمَ لا"، يصرخ أبو العلي في وجهي غاضباً من كل شيء. إنها الليلة الألف
التي يجلس فيها الشاب من دون عمل. لم يكن ليجد عملاً قبل كورنا وبالتأكيد لن يجده بعدها.
المطر الحانق من غبار الصيف القريب يود حقاً أن
يأخذ حقه في كل الزواريب الضيقة وعلى شرائط الكهرباء أيضاً. وعلى الرغم من استعداد
الجميع لتأمين مسألة التعقيم في المخيم، فإن عمتي تؤكد أن المطر يغسل كل شيء.. ولا
حاجة للتعقيم.
يتبرع الشبان بالتعقيم كمبادرة خاصة في المخيم.
"لا أحد في الخارج يسأل عنا لا أحد يهمه أمرنا، إنها معركتنا وككل معاركنا نحن
وحدنا." هكذا يردد محمد، العامل في الهلال الأحمر الفلسطيني.
عمتي، الجدة لعشرين طفلاً ووالدة لستة أبناء وبنتين،
يتربع الجميع في غرفتها الصغيرة داخل مخيم برج البراجنة. شاشة التلفاز تشير الى أعداد
المصابين بكورونا. الأحاديث تعلو كلّما اشتدت وتيرة النقاش. صراخ وحالة من الهستيريا
تصيب الأطفال. الواقع يخيف كل من الموجودين:
"لا مكان للحجر الصحي" تقول ابنة عمتي
ضاحكة؛
"نحجر أنفسنا في الخزانات" ترد ابنة
عمتي الأخرى؛
"المخيم لديه مناعة"؛
"بلا مناعة بلا بلوط راح نموت راح نموت"؛
"طيب الأونروا بتقدر تعمل اشي؟ "..
"تعمل شو ما ترامب وقف كل إشي. يا دوب تقدر تقوم فينا".
النقاشات تتصاعد ويتأخر الوقت أكثر. وفجأة يعم صمت
في الغرفة.
تتحامل عمتي على نفسها وتحضر العشاء للجميع.
الأيادي تتسابق نحو الصينية: لبن وجبن وثوم لتقوية
المناعة؛ يانسون في الأبريق؛ ومرمية في الأبريق الثاني.
الجميع يتناسى كورونا وأبو كورونا في لحظات الطعام
الهانئة.
تعاود عمتي ترداد آيات من القرآن الكريم. يخاطبها
ابن عمتي: "هي مكة وفضيت من المصلين يعني كورونا ما عندهاش اعتبارات دينية يما..
كلنا يعني كلنا."
ينام المخيم على الأخبار ويصحو على الأخبار. يعاود
الجميع الحديث عن الحرب القادمة وكأنها على مسافة مترين من المخيم.
"كيف نبتعد عن بعضنا البعض؟ هل يبتعد النمل
عن بعضه البعض؟ نحن نمل يا عمتي.. والنمل لا يفضل سوى القرب."